أحيانا تبدو الأمور بسيطة…تبدو سهلة…وقد تبدو للبعض تافهة أيضا…لكن ما أصعب التوافه حينما تستعصي علي التحقيق…وما أصعب أن يشعر المرء أمام أولاده أنه عاجز عن تحقيق أحلامهم البسيطة…التي قد تبدو تافهة في نظر غيرهم من الناس…وما أصعب ما سرده بطل قصتنا اليوم الذي جاءني وملؤه الخجل…ملؤه عزة النفس..لكن يملؤه أيضا حلم بسيط يود تحقيقه…قال لي:
أنا رجل في الثامنة والأربعين من عمري…متزوج منذ عشرين عاما…تنقلت في أعمال كثيرة حتي انتهي بي الأمر إلي عامل أمن في إحدي الشركات…أعول أسرة من ثلاثة أولاد في مراحل التعليم المختلفة أكبرهم 16 سنة…زوجتي ربة منزل…أحمد الله علي الستر…لم أمد يدي يوما ما إلي صديق أو قريب رغم ما مررت به من ظروف عسيرة وكثيرة…ومضت الحياة وتنقلت بين المحافظات تبعا لعملي…وبالتالي تنقلت بين المساكن…إلي أن استقر بي الأمر في القاهرة الكبري…كنت أهادن الفقر حتي لا أشعر بوطأته…كنت أصادق الجوع والحرمان حتي يبيت أولادي غير محرومين…وعشقت حرماني حتي أنني كنت أمتنع عن تناول الطعام في المنزل توفيرا لأبنائي, وتحسنت الأحوال تدريجيا…لكن ذهب الحرمان إلي مستويات أخري في معيشتنا…فكثيرا ما تمنيت أن أدخل منزلي بأكياس الفاكهة مثل سائر الآباء لكن هباء فأقصي ما تحقق هو كيس به عدد من البرتقال أو بعض من الموز…وأشكر الله علي كل حال فالمشكلة ليست في طعام أو شراب فاليوم محرومون وغدا يجود الله بالخير هكذا تعودنا…لكن مشكلتنا أعقد من المأكل.
منذ سبع سنوات استأجرت مسكنا صغيرا ولم أصلح فيه شئيا حينما سكنه…وتدهور الحال بأثاث المنزل…وتدهور الحال بحوائطه…التي تهالكت وباتت تقذف أبنائي بالقشور المتطايرة منها حتي أن جميعنا أصبنا بحساسية الصدر والأنف. أحضرتالمقشة ذات يوم وأخذت أنظف بها الحوائط وأسقط القشور المتهالكة فوقها حتي باتت بلا نقاشة- ابني- في المرحلة الثانوية- رآني أفعل ذلك قال ليإحنا مش بنبيض الحيطان ليه يا بابا…هو البياض غالي أوي كده؟…صمت فلم أجد ردا علي ولدي…فماذا سأقول له؟؟هل أقول له بعد شقاء دام سنوات لم أستطع ادخار ثمن نقاشة منزل80مترا.
طال صمتي فنظر لي ابني وباغتني قائلا:طب الحيطان هاننزل البياض المقشر اللي عليها…وها تعمل إيه في المراتب اللي قطمت وسطي ومش راضي أنطق ولا أقول علشان شايفا لحال؟ أنا عندي 16سنة ومش صغير ممكن أساعدك…أنزل أشتغل أي حاجة بعد الظهر لغاية ما نجمع حق التنجيد والبياض.
بدت الدهشة علي وجهي وأنا أقول للرجلربنا يطرح لك فيه البركة ويساعدك ولو إن مش وقته…ابتسم الرجل نصف ابتسامة ورد قائلا:الولد راجل من يومه لكن ما أقدرش أن استغل رجولته وأسيبه يشتغل وهو في السن دي…إحنا عشنا مستورين لكن فعلا ماعندناش مدخرات نعمل بها أي شئ تكميلي وموضوع البياض والتنجيد ومروحة..هل امتلاكنا لمروحة تخفف عنا حرارة الصيف شئ مستحيل لقد أصبحت هذه الأشياء البسيطة بالنسبة لبيتنا موضوع ليس بتكميلي لكن أساسي بعد تهالك المراتب والحوائط…يمكن مشكلتي بسيطة بالنسبة للمشكلات إللي بتصادفكم لكن حسيت إن ماليش حد ألجأ له فلجأت لكم.
رد المحررة
ربما يبدو لك أن في عمل ابنك استغلالا لرجولته حتي يقوم بمساعدتك..لكن هذا لا ينطبق في العموم وإنما ينطبق علي الوضع الحالي…أي أنه إذا حاول الآن مساعدتك أو البحث عن عمل فستكون أخطأت في حق ابنك لأننا علي مشارف امتحانات…لكن بعد انتهاء الامتحانات وتفرغه في فترة إجازة الصيف…يمكنك مساعدته ليجد عملا مناسبا ينمي مهاراته أيا كانت…ويدفع به إلي المجتمع ما دام لديه الاستعداد لخوض العمل مبكرا…فلا تقف أمامه بل شجعه, والمهم في الأمر أن يعمل عملا يضيف إلي خبراته ومهاراته في المستقبل…وبذلك تكون بموافقتك علي العمل قد ساهمت في بناء شخصيته المهنية والاجتماعية.
أما عن النقاشة والمراتب…قالهم بيننا مقتسم يا سيدي فلا نحن استهنا بالمشكلة ولا ضخمناها لكننا نشعر بها كما رويتها تماما…ورغم بساطتها إلا أنها توضح جانبا من الحياة يعتبره البعض رفاهية بينما هو أمر ملح للحياة العادية وليست المرفهة ولا حتي الكريمة فنحن شركاء في الهم وشركاء في زوال الهم حينما تنفتح القلوب علي احتياجك رغم بساطته…