لبنان هو من أجمل البلدان العربية طبيعة, وأكثرها تنوعا من حيث الملل والنحل والأعراق. وقد نتج عن طبيعته الخلابة هذه وتنوعه البشري ذاك نعمته ونقمته في نفس الآن. فرغم مساحته الصغيرة (التي لا تتجاوز 10.500 كيلومتر مربع) إلا أنها تحتوي علي جبال شاهقة تغطي الثلوج قمتها, وسهول خصبة, وسواحل جميلة تتخللها خلجان صالحة لموانئ طبيعية صالحة لإرسال واستقبال السفن من كل الأنواع والأحجام.
فوجود الجبال الشاهقة جعل من لبنان ملجأ آمن لكل الجماعات المضطهدة في منطقة الشرق الأوسط علي مر العصور, فإليها لجأ المسيحيون الموارنة بعد أن خسروا معركتهم اللاهوتية مع أغلبية مسيحيي الكنيسة الشرقية في بلاد الشام, منذ القرن الرابع الميلادي. ثم لجأ إليها المسلمون الشيعة من أنصار علي بن أبي طالب بعد أن خسروا معركتهم العقائدية والسياسية والعسكرية مع أنصار معاوية, في نهاية القرن الهجري الأول (الثاني الميلادي). وإليها لجأ الدروز, إحدي الفرق المنشقة من أنصار الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر, خلال القرن العاشر الميلادي. وإليها لجأ أرمن وأكراد بسبب اضطهاد الإمبراطورية العثمانية, ثم الكماليون الأتراك لهم في الربع الأول من القرن العشرين. وأخيرا, لجأ إليها فلسطينيون بعد هزيمة .1948
وهكذا أصبح لبنان بلدا للأقليات المهزومة واللاجئة بحثا عن الأمن والأمان, خلال التاريخ. ومع ذلك تتوتر العلاقات بين هذه الجماعات اللاجئة نفسها بين الحين والآخر. وأحيانا يتصاعد هذا التوتر وينفجر في صراع مسلح أو حرب أهلية. ودون الدخول في تفاصيل تاريخية بعيدة, يكفي لأغراض هذا المقال أن نذكر أن التاريخ الحديث للبنان يبدأ تقريبا مع تاريخ مصر الحديث, أي مع الحملة الفرنسية علي مصر وبلاد الشام عام .1798 وإلي ذلك الوقت كان الدروز هم أمراء لبنان, وأصحاب السلطة والثروة. وكانت الجماعات والطوائف الأخري تعمل في الزراعة والتجارة, وتربية دود القز, وصناعة الحرير.
ولكن الاختراق الأوربي, وخاصة الفرنسي, وجد في المسيحيين الموارنة استعدادا أكثر للتفاعل والتعاون. ومن ذلك أخذهم بالممارسات التعليمية والصحية الحديثة. وأدي ذلك بدوره إلي زيادة أعداد الموارنة ووعيهم, مقارنة ببقية السكان. فبدأوا في تحدي سلطة أمرائهم الدروز. ونشبت حربان أهليتان خلال القرن التاسع عشر, أدت كل منهما إلي تبديل موازين السلطة بين طوائف لبنان لصالح الموارنة, وعلي حساب الدروز, بينما ظلت الطوائف الأخري علي حالها.
ومع النصف الأول من القرن العشرين بدأت الطائفة السنية تأخذ بنفس أسباب التقدم التي كان الموارنة قد أخذوا بها قبل قرن ونصف القرن. لذلك بدأوا بدورهم يتحدون سلطة الموارنة. وظلت فرنسا, التي كانت القوة الخارجية الأكثر نفوذا وتأثيرا, تحابي وتدعم الموارنة. وانعكس ذلك في ما يسمي بالميثاق الوطني, الذي رتب اقتسام السلطة التنفيذية ـ علي أساس أن يكون رئيس الجمهورية ##مسيحيا مارونيا##, ورئيس الوزراء ##مسلما سنيا##. وفي السلطة التشريعية كانت القسمة هي ما يسمي بمعادلة خمسة أعضاء لكل المسيحيين مقابل أربعة أعضاء لكل المسلمين. ولإرضاء المسلمين الشيعة, رؤي أن يكون رئيس البرلمان منهم. ونعمت لبنان طبقا لهذه الصيغة, بحوالي ربع قرن من الاستقرار والحرية والازدهار. وحينما كان أحد الأطراف يحاول التلاعب بهذه الصيغة, كان شبح الحرب الأهلية يؤدي بالفرقاء إلي العودة إلي الأصل, وهو اقتسام السلطة بين الطوائف الأربع الرئيسية: الموارنة, والسنة, والدروز, والشيعة. وقد تناوب ثلاث منها علي المراكز الأكثر هيمنة ـ إلا الشيعة, الذين ظلوا حتي نشوب الحرب الأهلية الأخيرة (1975-1990) هم الأضعف شأنا, رغم أنهم في ذلك الوقت كانوا قد أصبحوا الأكثر عددا. ويقول الدارسون للشأن اللبناني إن سبب ذلك يرجع إلي أن غالبيتهم كانوا من فقراء الفلاحين الذين عاشوا في وادي البقاع وفي جنوب لبنان, في المنطقة الحدودية المتاخمة لفلسطين التاريخية, ثم لإسرائيل, منذ العام .1948
ولكن كما تعلم الموارنة أن يهبوا ضد سيطرة الدروز في القرن التاسع عشر, وكما تعلم المسلمون السنة أن يهبوا ضد سيطرة الموارنة في القرن العشرين, فقد تعلم المسلمون الشيعة أن يهبوا تدريجيا ضد سيطرة من سبقوهم ـ من الدروز والموارنة والسنة ـ في القرن الحادي والعشرين.
ومن مفارقات التاريخ اللبناني والعربي, أن يلعب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دورا حاسما في هذه المسيرة الشيعية. كذلك أسهم فيها بنفس الحسم قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام .1979
من ذلك أن مقاومة فلسطينية انطلقت ضد إسرائيل من جنوب لبنان, بعد هزيمة العرب الكبري عام .1967 وكانت إسرائيل بدورها ترد علي هجمات المقاومة بالإغارة علي جنوب لبنان, حيث يتركز الشيعة. ورغم التعاطف المبدئي لهؤلاء الشيعة تجاه المقاومة الفلسطينية, إلا أن الإغارات الإسرائيلية المتكررة, خلقت توترا مكتوما بين شيعة لبنان والمقاومة الفلسطينية. ثم تطورت أو تدهورت الأمور حتي وصلت إلي اجتياح إسرائيلي لكل لبنان في صيف 1982, واحتلال بيروت, وإجبار المقاومة الفلسطينية علي مغادرة كل الأراضي اللبنانية, إلي تونس واليمن, وغيرهما من بلدان عربية لا تجاور إسرائيل بالمرة. ومع خروج الفلسطينيين, أصبح المسلمون الشيعة في جنوب لبنان وجها لوجه مع احتلال إسرائيلي مستغل ومهين, فبدأوا يقاومون هذا الاحتلال بأنفسهم. وتطورت حركاتهم الاحتجاجية السلمية ضد أوضاعهم في لبنان, والتي حملت في البداية أسماء مثل ##حركة المحرومين##, التي أسسها أحد رجال الدين الشيعة, وهو الإمام موسي الصدر, الذي اختفي في ليبيا فيما بعد, ثم إلي ##حركة أمل## التي قادها المحامي الشيعي نبيه بري, إلي حركة مقاومة مسلحة, حملت اسم ##حزب الله##, والتي قادها في البداية أحد رجال الدين الشيعة وهو السيد حسين فضل الله, ثم السيد حسن نصر الله. وقد نجحت حركة المقاومة المسلحة هذه في إجبار قوات الاحتلال الإسرائيلي علي الجلاء من آخر معاقلها في جنوب لبنان, عام 2000, بعد احتلال استمر ثمانية عشر عاما. وكان هذا الجلاء دون قيد أو شرط. وهو إنجاز لم يحدث من قبل طوال نصف قرن من الصراع العربي الإسرائيلي ـ لا بواسطة المقاومة الفلسطينية, ولا بواسطة حكومات عربية مثل مصر وسوريا والأردن.
وكان من شأن هذا الإنجاز العسكري لحزب الله, أن يرفع من إحساس شيعة لبنان بالفخر والقوة. كما أنهم بهذا الإنجاز, استمروا في ضغوطهم علي إسرائيل للإفراج عن أسري لبنانيين كانت إسرائيل قد اختطفتهم خلال العشرين عاما السابقة.
وكانت إحدي وسائل الضغط هذه, هي أن يعبر مقاتلو حزب الله الحدود ويختطفوا جنودا إسرائيليين لمقايضتهم بالأسري اللبنانيين في السجون الإسرائيلية. وأدي ذلك بدوره في صيف عام 2006 إلي مواجهة واسعة النطاق بين إسرائيل وحزب الله, استمرت ستة أسابيع, واستخدمت فيها إسرائيل كل قوتها العسكرية الرهيبة ـ جوا وبرا وبحرا. ودمرت معظم البنية الأساسية, لا في جنوب لبنان فقط حيث تتمركز قوات حزب الله, ولكن في كل لبنان, حتي طرابلس في أقصي الشمال. ومع ذلك صمد حزب الله, ولم يستسلم أو يفرج عن جنديين إسرائيليين كان قد أسرهما. بل ورد علي الغارات الإسرائيلية علي لبنان بإطلاق صورايخ, أرض ـ أرض, كان قد حصل عليها من إيران, عبر سورية. وخلق ذلك هلعا شديدا في إسرائيل. ولم تتوقف هذه الحرب إلا بتدخل من مجلس الأمن الدولي, وإرسال قوات من الأمم المتحدة لحراسة الحدود اللبنانية الإسرائيلية. وتضاعفت شعبية حزب الله وزعيمه السيد حسن نصر الله, داخل وخارج لبنان في العالمين العربي والإسلامي.
ومع هذه الشعبية الجارفة, وبوجود السلاح في أيدي مقاتليه, بدأ حزب الله يتجه إلي الداخل اللبناني, لتسوية حسابات تاريخية ومعاصرة للطائفة الشيعية تجاه طوائف لبنان الأخري.
وضمن ذلك, رفض السيد حسن نصر الله نزع سلاح الحزب, وهو ما طالب به أحد قرارات الأمم المتحدة. بل وبدأ الحزب يطالب بإسقاط الحكومة اللبنانية المنتخبة ديموقراطيا, وهي حكومة السيد فؤاد السنيورة, بدعوي أنها حكومة عميلة للغرب عموما, وللولايات المتحدة خصوصا. ولتصعيد ضغوطه, دعي أنصاره إلي اعتصام سلمي في الميادين الكبري في العاصمة بيروت, في ديسمبر .2006 فأصاب العاصمة التجارية بالشلل. ثم ضغط علي النواب والوزراء الشيعة لمقاطعة الحكومة والبرلمان, فأصابهما أيضا بالتعطيل, وإن لم يكن بالشلل التام.
وردت الحكومة وأنصارها من زعماء الطوائف الثلاث الرئيسية الأخري, بأن حزب الله عميل لإيران وسورية, وأنه يريد إعادة الاحتلال السوري للبنان. واستمر السجال بين الفريقين ـ الموالين للحكومة والمعارضين لها, حوالي ستة عشر شهرا. ثم انفجر في الشهر الأخير إلي اشتباكات مسلحة, سقط فيها ثمانون قتيلا. وأصبح شبح الحرب الأهلية يخيم علي لبنان من جديد.
وهنا تدخلت دولة قطر بوساطة ناجحة بين الفريقين, حقق فيها الشيعة بعض مطالبهم وحقق الفرقاء الآخرون بعض مطالبهم, وفي مقدمتها انتخاب اللواء ميشال سليمان رئيسا للجمهورية, وفض الاعتصام من ميادين بيروت. وتعرف هذه الصيغة في اللغة السياسية اللبنانية بتعبير ##لا غالب ولا مغلوب## وابتهج الشعب اللبناني بكل طوائفه.
وبقدر ما حقق شيعة لبنان من تسويات لمظالمهم التاريخية, فإن دولة قطر, وهي من أصغر البلدان العربية, أثبتت جدارة ومصداقية في حل المشكلات الإقليمية المعقدة, وهو ما فشلت في تحقيقه أكبر الدول العربية ـ مثل مصر والسعودية وسورية. وكما يذهب القول المأثور ## إن الله سبحانه وتعالي يضع سره في أصغر خلقه##. فهنيئا لشعب لبنان علي سلمه الأهلي, وتحية للشيخ حمد بن خليفة آل ثان, حاكم قطر, ورئيس وزرائه الشيخ حمد بن جاسر آل ثان, علي وساطتهما الناجحة, وإنجازهما الباهر