لا يمكن فصل زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للبنان عن الأزمة السياسية الخطيرة التي يمر بها البلد الصغير, وعن التأرجح الذي يعيشه بين التهدئة والتشنج, ثم انتقاله إلي التأرجح بين التأزيم السياسي الذي قد يطيح بحكومة الوحدة الوطنية وبين أن يذهب الأمر إلي حد التأزيم الأمني. ومحور كل هذا التأزيم هو الحرب علي المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي لم يخف نجاد وقوفه ضدها في كلمته مساء الأربعاء الماضي في الضاحية الجنوبية علي طريقته.
وقد عبر الرئيس الإيراني عن هذا التأرجح الذي يعيشه لبنان باعتماده خطابين: واحد معتدل وتصالحي ووحدوي في القصر الرئاسي, وآخر هجومي يجعل لبنان ضمنا منصة لسياسة إقليمية تتعدي حجمه الصغير وقدراته, وتدخله في محور شاء نجاد أن يحدد عناصره تحت عنوان جبهة المقاومة التي شكلها من فلسطين وسورية والعراق وتركيا وإيران ولبنان.
وعلي رغم أن البعض يخير لبنان, لمناسبة زيارة الرئيس نجاد, بين النفوذ الإيراني فيه, كما ظهر من خلال الاستقبال الشعبي الحزبي والحفاوة التي لقيها في الضاحية الجنوبية والجنوب, ومن قبل حزب الله, وبين العودة إلي النفوذ السوري التاريخي علي قراره السياسي وسلطته المركزية, فإن دعوة اللبنانيين إلي الاختيار بين الاثنين تجعلهم يتأرجحون بين جهتين هما في الواقع, وحتي إشعار آخر, جهة واحدة, تأخذ كل منهما حرية الحركة المستقلة تبعا لمصالحها مع الاحتفاظ بما يجمعهما لبنانيا وإقليميا, وتفهم كل منهما لحاجات الثاني في المناورة السياسية. فخطاب نجاد في القصر الرئاسي راعي حاجة دمشق إلي مواصلة جهود التهدئة بالاشتراك مع المملكة العربية السعودية التي تستمر معها في جهود حفظ الاستقرار بناء للتفاهم الذي تم التوصل إليه في نهاية تموز (يوليو) الماضي. وخطاب نجاد في الضاحية الجنوبية عكس مدي اتفاق طهران ودمشق علي السعي إلي إلغاء المحكمة الدولية, الذي تحول مطلبا ضمنيا للاثنين معا, لم يعد المسئولون السوريون يخفون تبنيهم له في أحاديثهم مع زوارهم اللبنانيين من دون مواربة, بموازاة الموقف الإيراني المتطابق مع مطلب حزب الله في هذا الصدد.
وإذا كانت دمشق لا تمانع في تأرجح نجاد بين الخطابين, فلأن خطابه الأول ينسجم مع سياستها التقليدية في استدراج العروض من القوي الدولية والإقليمية التي لم تحصل منها, وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية, علي ما يحقق مطالبها بالانفتاح عليها وإرضائها باستعادة الجولان المحتل, وخطابه الثاني في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل, وحول المحكمة, يتلاءم مع مواصلة دمشق تحالفاتها التي عمقتها في السنوات القليلة الماضية, لحماية ظهرها في حال تجددت الضغوط عليها, ولإضعاف من يقاسم حلفاءها السلطة في لبنان من أجل العودة إلي ما قبل عام .2005
إلا ان التأرجح بين درجات متفاوتة من التأزم اللبناني ليس كافيا لفهم اعتماد نجاد خطابين. فالتأزم اللبناني يعكس ما يجري في الميدان الإقليمي, الذي يتقن الجانب الإيراني التعاطي معه ببراغماتية بعيدة عن المواقف الإيديولوجية. فطهران تدرك حاجة دمشق, صاحبة الباع الطويلة في لبنان, والتي يتوقف عليها اعتماد لبنان منصة لتوجيه الرسائل أو خوض المعارك, إلي علاقات إقليمية مختلفة تعبر عنها القيادة السورية بدعوتها إلي انضمام العراق إلي تعاون استراتيجي يشملهما ولبنان وتركيا والأردن علي خلفية السعي إلي سوق مشتركة بين هذه الدول. فنجاد مطمئن إلي وجود دمشق في منظومة التعاون الإقليمي التي تتصدرها والتي حدد نجاد دولها في خطابه الثاني بـ جبهة المقاومة.
خطابا نجاد المختلفا النبرة في لبنان وسط التأرجح اللبناني بين السيء والأسوأ من التأزيم, يعكسان أيضا هذا التأرجح بين التسليم لطهران بغلبة نفوذها في بغداد بعد أن توافقت مع واشنطن علي رئاسة نوري المالكي للحكومة وانضمت دمشق إلي هذا التفاهم, وبين سعي الدول المهتمة بالعراق إلي تحسين ظروف تقاسم السلطة وفق ما يلائم مصالحها (تركيا, مصر والسعودية).
الخطابان يعكسان التأرجح بين إمكان تجديد التفاوض الغربي مع إيران علي ملفها النووي في الأسابيع القليلة المقبلة, وبين مزيد من المواجهة بين الغرب وبينها في الأشهر المقبلة. ولبنان أحد الأوراق وميدان للرسائل في الحالتين.
* عن الحياة اللندنية