الأوساط الإعلامية اللبنانية منشغلة بأخبار ##تسوية## ملف ##المحكمة الخاصة بلبنان## والتي توصلت إليها سورية والمملكة العربية السعودية. ويعود هذا الانشغال إلي التناقض الواسع في المواقف منها بين الفريقين اللذين يفترض أن يقبلاها وتاليا أن ينفذاها أي فريق 8 آذار وفريق 14 آذار. فالأول يؤكد علي نحو لا يقبل الشك أن ##التسوية## تمت, وأن إعلانها يقتضي الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة عليها ومن التفاهم علي مرحلة التعايش بينهما التي يفترض أن تليها. والثاني يبدو حائرا ومرتبكا. فهو من جهة يريد ##تسوية## وخصوصا إذا كانت السعودية حليفته الاستراتيجية أحد عرابيها. إذ من شأن ذلك حفظ بعض حقوقه أو علي الأقل ##تجميل## الاستسلام الذي تنطوي عليه أو التخلي عن المحكمة وربما عن الحكم في مرحلة لاحقة. لكنه من جهة أخري لا يعرف سواء من قادته – علما أن غالبيتهم لا تعرف ماذا جري ويجري وقد يجري – حقيقة ##التسوية## التي كثر الحديث عنها ومدي جديتها.
هل من معطيات معينة تبدد الغموض المسيطر علي أخبار ##تسوية## ملف ##المحكمة الدولية##؟
لا أحد من العارفين والمتابعين في لبنان ومن خارجه يملك ما يمكنه من تبديد الغموض المذكور. لكن المتوافر عندهم من المعلومات والمعطيات لا يؤكد أن التسوية صارت في ##الجيب## وأنها في انتظار الظرف الملائم لإعلانها, وإنما من دون أن ينفي أن المساعي للتوصل اليها لا تزال تبذل مباشرة بين الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله بن عبد العزيز, والأخري التي تبذل بواسطة القنوات الدبلوماسية بين دمشق وعواصم دولية معنية بالأوضاع اللبنانية نظرا إلي تشعباتها الإقليمية في مقدمها باريس. وتفيد المعلومات التي وصلت اليهم في بيروت في الأيام الأخيرة الماضية أن الإدارة الفرنسية طرحت علي القيادة السورية اقتراحا مفصلا من بنوده المهمة اثنان. واحد يرضي 8 آذار وحليفيه الإقليميين وينطوي علي خطوات معينة يفترض أن تتخذها الشرعية اللبنانية متمثلة بمجلس الوزراء حيال ##المحكمة الدولية##, بحيث تؤدي في النهاية إلي انسحاب لبنان منها بل من ##الاتفاق الرسمي## الذي أدي إلي إنشائها. وآخر يرضي فريق 14 آذار وحلفاءه الإقليميين (عرب الاعتدال أو عرب أمريكا) ويرضي في الوقت نفسه أمريكا وفرنسا وجهات دولية أخري. وينص هذا البند علي نزع السلاح غير الشرعي من كل لبنان. والمقصود هنا سلاح المنظمات الفلسطينية المنتشر خارج مخيمات لجوئهم, وسلاح المقاومة الإسلامية التابعة لـ##حزب الله##. طبعا يميز البعد الثاني هذا بين السلاحين ##اللبناني المقاوم## والفلسطيني. فالاول يفترض أن يبقي للحفاظ علي توازن الردع مع إسرائيل الذي حققه وخصوصا منذ حرب 2006, ولكن تحت سيطرة السلطة اللبنانية الشرعية, ووفق صيغة يتفق عليها مع الحزب وعرابيه الاقليميين. في حين إن الثاني يذهب إلي الدولة التي تتولي وحدها حماية الفلسطينيين, إذا واجهوا أي تهديد داخلي أو إسرائيلي, وخصوصا بعدما ثبت أن سلاحهم الضخم عام 1982 لم يحمهم من الهزيمة أمام غزو إسرائيل لبنان. فكيف يحميهم السلاح الأقل ضخامة وتقدما بكثير خارج المخيمات الآن والسلاح شبه الفردي أو الأكثر من فردي بقليل داخل المخيمات؟ فضلا عن أن هذا السلاح بشقيه يمكن أن يستعمل كله أو بعضه في نزاعات داخلية لبنانية لا سمح الله, أو في حرب ##جهادية## تستهدف جوار لبنان ومنطقته. علما أنها قد لا توفره أيضا.
ماذا كان موقف القيادة السورية من الاقتراح الفرنسي هذا؟
كان سلبيا, يجيب العارفون المتابعون من اللبنانيين أنفسهم, ودائما استنادا إلي المعلومات التي وردت عليهم من باريس اخيرا. طبعا أرفقت دمشق رفضها بمبررات له وحيثيات لم يتسرب الكثير عنها. لكن التحليل المنطقي للأوضاع في لبنان ولأزمته الراهنة ولتشابكاتها الإقليمية يشير وفي وضوح إلي أن ##لبنان منزوع السلاح## لن يراه اللبنانيون إلا بعد حلول السلام والاستقرار في المنطقة, أو علي الاقل بعد توصل أمريكا ومعسكرها الدولي _ العربي _ الإسلامي من جهة وإيران وسورية من جهة أخري إلي نهاية المواجهة الشرسة الدائرة بينهما. فإيران الإسلامية التي كان لبنان وخصوصا بـ##حزب الله## فيه أحد أبرز اسباب نجاحها في مواجهة أمريكا وحلفائها وفي مقدمهم عربها وإسرائيل لن تتخلي عنه إلا في حال من اثنتين. الأولي, توصلها إلي تفاهم نهائي مع أمريكا. وبذلك تبطل حاجتها إليه. والثانية توصلها إلي صدام عسكري واسع مع أمريكا وبذلك يصبح لبنان ساحة للمعركة بينهما. ونهايته تحددها نتيجة المعركة أو الحرب.
وأيا تكون هذه النتيجة فإن الخراب والدمار اللذين سيحلان به لا بد أن يعطلاه سنوات طويلة, أو بالأحري أن يجعلاه معوقا إلي أبد الآبدين. أما سورية بشار الأسد والتي كان لبنان بـ##حزب الله## أحد أسباب نجاحها في تخلصها من الارتباك والإحراج اللذين تسببت بهما لها ##هزيمتها## في لبنان عام 2005, فإنها بالتفاهم مع حليفها الإيراني لن تقبل نزع السلاح في لبنان قبل انتهاء حاجتها إليه, وقبل حصولها علي موافقة دولية, وربما تكليف دولي, وكذلك موافقة إيرانية علي عودتها لاعبا أول فيه أو صاحب النفوذ النهائي فيه. والأمران المفصلان أعلاه لم يحصلا إلي الآن. ولذلك فإن كل التطورات تبقي محتملة سواء تعلقت بـ##المحكمة الدولية## أو بالمشكلات الأخري. علما أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلي أن الخيار المطلوب من 14 آذار ليس سهلا لأنه تسليم إذا لم نقل استسلاما.
وتقتضي الإشارة أيضا إلي أن حسم السعودية موضوع ##المحكمة## ليس سهلا لأن أمريكا تضغط عليها, ولأن إيران المهددة لها أحبطتها أخيرا في العراق ولم تتمسك سورية بمحاولة إنجاحها فيه.
عن النهار اللبنانية