في الأنظمة الديموقراطية تضع الأزمات الحكومات علي المحك, أما في الأنظمة التي تعاني من العجز الديموقراطي فإن الأزمات تضع النظام برمته علي المحك . ونحن في لبنان نواجه النوع الثاني من الأزمات . فالنظام اللبناني لم يوضع علي المحك مرة واحدة فحسب خلال تاريخ لبنان السياسي الحديث, وإنما تعرض مرارا إلي أزمات مصيرية . البعض يري التاريخ اللبناني رحلة تنقل بين الأزمات مثل الأزمة التي يمر بها لبنان اليوم والتي تشد علي عنقه منذ منتصف العقد الفائت . هذه الحلقة المفرغة من التنقل بين لحظات التفاؤل وساعات اليأس والبؤس تحتم البحث ليس عن محطة مؤقتة ننتقل إليها, بل عن طريق جديد للتطور الآمن والمستقر . تحقيق هذه الغاية يقتضي التدرج عبر المنعطفات والخطوات التالية:
1) التحليل الدقيق لمسببات الأزمات والمعضلات التي ألمت بلبنان عبر التاريخ . من البديهي أن يبدأ هذا التحليل أحادي الطابع, أي أن يقوم به أفراد من أهل الرأي أو جماعات . ولكنه لا بد أن يتحول في نهاية المطاف وحتي يكتسب طابعه المشروع إلي تحليل جماعي يعبر عن نظرة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين . الاتفاق علي مثل هذا التحليل هو بمثابة تشخيص يقوم به الطبيب – الذي يضطلع بدوره في هذه الحالة أهل الرأي والقرار – لعلة يشكو منها المريض . من دون هذا التشخيص لا يتمكن الطبيب من أن يصف الدواء السليم للمريض . وإذا كان التشخيص خاطئا أو ناقصا, فإن الطبيب قد يقضي علي المريض بدلا من أن يقضي علي العلة التي يشكو منها .
التشخيص الرائج حتي الآن هو تحميل الطائفية في لبنان السبب في كافة المصاعب التي واجهها . هذا التشخيص يحمل الكثير من التبسيط . إن الطائفية هي بيئة مناسبة تنمو فيها الكثير من الأمراض والأعراض التي يعاني منها لبنان . ولكن هذا التحليل إذ يركز علي علة واحدة يتجاهل عللا أخري (التدخل الأجنبي, الاحتلال, النزعة إلي الاستبداد, العنف, الاقصائية, الفساد إلخ . . .) لا تقل خطورة عن الطائفية .
2) إجراء مراجعة وتقييم للحلول التي طبقت في الماضي حتي هذا التاريخ من أجل معالجة المعضلات التي واجهت الجمهورية اللبنانية منذ ولادتها . في مقدمة هذه الحلول ما تجمع في سلة التشريعات والقوانين والإجراءات التي دعاها بعض علماء السياسة وفي مقدمتهم الهولندي د . آرندت ليبهارت واللبناني د . أنطوان مسرة في لبنان بنموذج الديمقراطية التوافقية .
يخلط البعض بين الديمقراطية التوافقية والنظام الطائفي . فالطائفية هي في نظر النخبة السياسية اللبنانية هي علة النظام . من هنا اعتبر البيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال أن الخلاص منها ساعة يقظة وطنية, ومن هنا دعا اتفاق الطائف إلي تجاوزها . بالمقارنة فإن الديمقراطية التوافقية هي نموذج لنظام سياسي مقترح للحفاظ علي الديمقراطية وعلي الوحدة الترابية في المجتمعات التعددية . بتعبير آخر إن الطائفية هي المرض, أما الديمقراطية التوافقية فهي الدواء . قد لا يكون هذا الدواء مناسبا, ولكنه في كافة الحالات, لا يجوز وضعه في سلة واحدة مع الطائفية .
الديمقراطية هي, في نظر بعض مناصريها, ليس أفضل الأنظمة السياسية وإنما هي أقلها سوءا . استطرادا يمكن القول إن الديمقراطية التوافقية هي ليس أفضل النماذج الديمقراطية ولكن أقلها سوءا! ولا ريب أنه من المستطاع الانتقال من الديمقراطية التوافقية إلي الديمقراطية العددية . بيد أن بعض اللبنانيين قرر أن لبنان حقق هذا الانتقال فعلا! متي حدث هذا الانتقال وكيف؟ هل مررنا بساعة الخلاص الوطني حقا؟ هل تشكلت الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية؟ هل أنجزت مهماتها ووضعت مقترحاتها؟ هل أخذ الجسم السياسي اللبناني بهذه المقترحات فانتقلنا بموجبها إلي نظام الأكثرية العددية؟ نعم, يجيب هذا الفريق من اللبنانيين, تم ذلك وأصبح نظام لبنان أكثريا بعد أن كان ديموقراطيا توافقيا .
في هذه الحالة كيف نفسر الفقرات التي تتضمنتها وثيقة الطائف والدستور المعدل المنبثق عنها حول العيش المشترك استمرار المناصفة في عدد النواب؟ كيف نفسر توزيع المراكز الرئاسية الثلاث علي الطوائف اللبنانية الرئيسية؟ كيف نفسر توزيع المناصب الإدارية الرئيسية علي الطوائف عموما؟ بل كيف نفسر المادة المتعلقة بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية؟
إن النموذج الديموقراطي الذي في لبنان اليوم هو ليس نموذجا للديمقراطية الأكثرية ولا هو بالنموذج للديمقراطية التوافقية بصورة حصرية وإنما هو نظام هجين يجمع بين سمات النموذجين معا . حتي نعالج الشأن الطائفي ونقلص من تأثيره السلبي في الحياة العامة في لبنان فإنه لا بد من تقييم هذه التجارب بعقل متجرد وبعين علي مستقبل النظام السياسي اللبناني وبرغبة في استمرار الديموقراطية اللبنانية وترسيخها .
3) يمكن إدراج الحلول المقترحة لإنقاذ النظام السياسي اللبناني في إطار نهجين رئيسيين:
* الدعوة إلي تطوير النظام الحالي, أي الحفاظ علي مكوناته الديموقراطية التوافقية . وهذه الدعوة لم تتبلور بعد في مشروع ناضج .
* الدعوة إلي الانتقال إلي نظام ديموقراطي أكثري يقوم علي المواطنة .
إن التركيز علي واحد من هذين النهجين لا يعني صرف النظر عن النهج الآخر . الحقيقة أنه لا يمكن التخلي عن نظام الديموقراطية التوافقية راهنا لأن البديل عنه قد يكون _سودنة_ لبنان كما يقدر الكثيرون . الطريق السليم لتطوير النظام اللبناني بأفق غير طائفي يقتضي تطبيق نموذج الديموقراطية التوافقية بصورة مؤقتة مع تحديد مهلة زمنية للانتقال إلي نظام أكثري يقوم علي المواطنة . هذا البرنامج الزمني ضروري حتي لا يتحول المؤقت إلي دائم, أي كما حصل منذ إعلان الدستور اللبناني عام 1926 الذي نص علي مراعاة مصالح الطوائف اللبنانية .
المجال الأفضل لتحديد البرنامج الزمني للانتقال إلي نظام أكثري هو الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية التي نص الدستور اللبناني علي تشكيلها ولكنها لم تشكل حتي تاريخنا هذا . كذلك فإن الدستور يسمح بتحويل هذه الهيئة إلي رقيب علي تطبيق برنامج التحول نحو الديموقراطية الأكثرية . في كافة الأحوال ينبغي تأكيد أن معالجة الشأن الطائفي لا يغني عن معالجة العلل الأخري التي يعاني منها النظام السياسي في لبنان مثلما تعاني منها العديد من الأنظمة السياسية في الوطن العربي
نقلا عن الخليج الإماراتية