للوهلة الأولي, قد تبدو لبنان – ثاني أصغر الدول العربية بعد البحرين ـ كجزء غير مهم بالمرة علي لوحة البازل العملاقة التي تكون الشرق الأوسط الكبير, الممتد من غرب آسيا حتي شمال أفريقيا. ومع ذلك, ربما تحتل لبنان ـ في الوقت الحالي ـ أهمية استراتيجية كبري, تفوق بكثير حجمها الجغرافي. وفي المباراة الكبري الجارية داخل الشرق الأوسط, تعتبر لبنان قطعة مهمة, تحدد السيطرة عليها النتائج التي تلي.
وتولي وسائل الإعلام في طهران اهتماما كبيرا بالانتخابات اللبنانية المزمع عقدها في 7 يونيه بنفس القدر الذي توليه للانتخابات الرئاسية التي في الجمهورية الإسلامية بعد ذلك بخمسة أيام. ويري المحللون في طهران أن الانتخابات اللبنانية يمكنها التأثير ـ إلي حد كبير ـ علي السباق الرئاسي الإيراني.
ونشرت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الرسمية (إرنا) الأسبوع الماضي تحليلا قالت فيه إننا نقترب من يونيه ساخن, فالانتصار في لبنان سيعطي إشارة البدء لانتصارنا في كل مكان.
وتكمن الفكرة في أنه إذا فاز الائتلاف الذي يقوده جناح حزب الله اللبناني بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقبلة في بيروت, فسيكون بمقدور الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد حينئذ زعم تحقيق سياسة تحديه للولايات المتحدة والأنظمة العربية المعتدلة انتصارا ثانيا. ويبدو أن فرض السيطرة علي لبنان عبر حزب الله هو الموضوع الوحيد الذي يتفق عليه مرشحو الرئاسة الإيرانية, ويتجلي هذا من وصف كل من أحمدي نجاد ومنافسه الرئيس مير حسين موسوي حزب الله اللبناني علي أنه ابن ثورتنا. ويري كلاهما أن انتصاره سيقوي من الوضع الضعيف للنظام في إيران.
وتتوقع طهران أن تعطي الانتخابات اللبنانية إشارة البدء لـتغيير نظامي, وأن تضعها في صف وجهة النظر العالمية الخومينية الموسعة. حينها ستصبح لبنان حصنا للثورة الخومينية, بدلا من كونها مرتعا للنخبة الفاسدة المائلة نحو الغرب.
وتردد الخطابات التي يطلقها مرشحو حزب الله – من أمثال نواف الموسوي, الذي يصر علي أن الانتخابات ليست قضية فوز بمقاعد, ولكن تغيير النظام القائم – وجهة النظر هذه.
وتأتي الانتخابات اللبنانية في وقت تتزامن فيه عوامل عديدة لصالح إيران, ومنها أن الولايات المتحدة ما زالت تسعي جاهدة لصياغة سياسة مترابطة في الشرق الأوسط, وهي السياسة التي ستبقي علي استراتيجية جورج بوش, لكن دون أن تتشابه معها. وسيحول الارتباك الناتج دون فهم إدارة أوباما ما يجري, ناهيك عن التأثير عليه بطريقة كبيرة.
ومن ناحية أخري, صب غياب القوات السورية علي الأرض اللبنانية في صالح طهران أيضا, إذ كشفت حقيقة طرد السوريين عن إمكانية تعرضهم للخطر. وقد تحدث حسن نصر الله – الأمين العام لحزب الله اللبناني- عن الفارق بين إسلام الانتصار, وإسلام الهزيمة. ومن الواضح أنه يضع سورية في المجموعة الأخيرة, فيما احتلت إيران صدارة المجموعة الأولي.
وذكر أن الدول العربية – ومن بينها سورية – منيت بأربع هزائم كبري علي يد إسرائيل, إلا أن حزب الله – المدعوم من إيران – نجح في هزيمة أقوي جيش بالمنطقة. ونوه إلي أن حزب الله تمكن من تحرير الجنوب اللبناني, في الوقت الذي تقبع فيه مرتفعات الجولان تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي.
ويصب الشقاق المتفشي بين الدول العربية أيضا في صالح طهران. ويأمل أحمدي نجاد أيضا في أن تتجه عدد من الدول العربية إلي انتهاج الطابع الفنلندي, وهو المصطلح الذي استحدث خلال الحرب الباردة, حيث أصر الاتحاد السوفياتي حينئذ علي أن تبقي دولة فنلندا المجاورة في وضع الحياد, وعدم تشكل سياسات عدائية فيها إزاء موسكو.
ويري محللو طهران أن هناك ثلاث دول عربية علي الأقل – تتمثل في سلطنة عمان, وقطر, واليمن – طبعت بـالطابع الفنلندي فيما يتعلق بأنها لن تنضم إلي عمل يعارض السيطرة الإيرانية. وهناك دولتان عربيتان – ألا وهما سورية, والسودان – تعتبران حليفتين تابعتين, أي أنه من المحتمل أن تدعما الطموح الإيراني, بدلا من معارضته.
ومن المتوقع أن تبقي دولتان عربيتان – ألا وهما الجزائر, وليبيا – في موقع حيادي, ولكن لأسباب مختلفة.
وفي هذا التحليل, ثمة غموض يعتري موقف دولة عربية واحدة مهمة, ألا وهي العراق, وهذا مرده إلي أن مسارها السياسي المستقبلي لن يتحدد إلا بعد إجراء الانتخابات العامة في يناير عام .2010
ويوجد لاعبان آخران في هذه المباراة, يتمثلان في تركيا وإسرائيل.
ويمكن لتركيا – التي يحكمها نظام إسلامي معتدل – أن تبزغ كتهديد طويل الأمد للطموحات الخومينية. ومع ذلك, فحتي وقتنا الحالي, سيحول افتقارها إلي خبرة السياسة الإقليمية وحالة الفصام التي تعاني منها – الناجمة عن اصطدام الطموحات الأوروبية مع أحلام زعامة الإسلام – دون لعبها دورا بكامل إمكاناتها.ولن يكون بمقدور إسرائيل أيضا توجيه ضربة قاسمة بكامل قوتها, لعدد من الأسباب.. توجد في إسرائيل حكومة ائتلافية ضعيفة, غير متوقع استمرارها لأكثر من 18 شهرا, كما يقوض التكهن بفتور باراك أوباما المفترض حيال إسرائيل من قدرة الدولة اليهودية علي البروز كقوة بالمنطقة. هذا, إضافة إلي أنه, وللمرة الأولي منذ عقود, لا يوجد لدي إسرائيل أي حلفاء داخل لبنان
ويمكن للبنان, إذا ما وقعت تحت السيطرة الإيرانية, أن تمثل إحدي طرفي كماشة, علي أن يتمثل الطرف الآخر في حماس المسيطرة علي غزة, والمقصود من هذا هو تعريض إسرائيل إلي حرب ضئيلة الكثافة, يمكنها بمرور الوقت استنزاف عزيمتها علي المقاومة. وتراقب روسيا هذه الأحداث عن كثب, بمزيج من الأمل والخوف.
إن من شأن انتصار عملاء إيران أن تمكن الجمهورية الإسلامية من الوصول ببحريتها إلي البحر المتوسط, مستغلة بذلك ميناء بيروت كمحور لها. وسيفتح هذا المجال أمام تأمين حقوق رسو السفن عند ميناء اللاذقية السوري. وبالإضافة إلي هذا, فمن شأن السيطرة علي لبنان أن تمنح إيران وجودا مباشرا علي البحر المتوسط للمرة الأولي منذ 1500 عام.
وسيؤدي هذا إلي أن يكون من السهل علي روسيا أن تسعي للحصول علي قاعدة بحرية لأسطولها في البحر الميت, حيث من المفترض أن ينتهي عقد تأجيرها لقاعدة سيفاستوبول في أوكرانيا في عام .2017
وربما يكون الأكثر أهمية هو أن بزوغ إيران علي أنها قوة إقليمية تتمتع بروابط حميمة ووثيقة مع روسيا – المرموز لها بدور موسكو في بناء القدرة النووية الإيرانية – يمكن تقويض الوجود الأميركي الدائم منذ عقود, والظاهر علي أنه اللاعب الأوحد في الشرق الأوسط الكبير.
ومع ذلك, فإن موسكو أيضا يخالجها شعور بالخوف من ظهور جمهورية إسلامية مسلحة نوويا بالقرب من حدودها.
وعلي اعتبار أن لبنان تعتبر استثمارا مفيدا سياسيا, أضحت طهران تغدق بالأموال بصورة لم تعهدها من قبل. وحسبما أفادت مصادر في واشنطن, فقد فاق المعسكر المؤيد لطهران في عمليات إنفاقه تحالف 14 مارس (آذار) بمقدار يصل إلي الضعف.
وأوضح مسئول سابق بالإدارة في واشنطن قائلا لبنان هي المكان الوحيد المزدهر به الاقتصاد في الوقت الحالي, والسبب في هذا يتجلي من حرب الشيكات التي شنتها المعسكرات المنافسة, التي تحاول الفوز بانتخابات يونيو (حزيران).
ومع ذلك, لا تبدو الأمور المتعلقة بلبنان دوما سهلة كما تظهر في طهران, أو واشنطن, أو أي مكان آخر يهتم بالأمر, فربما ما زالت آمال طهران في تحقيق انتصار مذهل في لبنان خلال الشهر المقبل لا تزال تواجه عائقا, حيث لا تفلح دوما أفضل الحيل لدي الفئران والرجال
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط الدولية