سؤال هذا المقال ينطوي علي مسألتين: المسألة الأولي خاصة بتعريف العلمانية أما المسألة الثانية فخاصة بالأسباب التي جعلتني علمانيا.
نبدأ بالمسألة الأولي ونتساءل: ما العلمانية؟
في تعريفي هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق, ومعني هذا التعريف أن الإطار المرجعي لفهم إشكاليات الحياة برمتها والبحث عن حلول لها ينبغي أن يكون نسبيا وليس مطلقا بحكم أن هذه الإشكالية مرتبطة بزمان معين ومكان معين, وبالتالي فإنها نسبية ومتغيرة. أما إذا كان الإطار المرجعي مطلقا فإننا نكون في هذه الحالة أمام احتمالين: إما أن يكون المطلق هو الأقوي فيتجمد النسبي ويمتنع عن التطور, وإما أن يكون النسبي هو الأقوي فيقضي علي المطلق.
وقد اكتشفت هذا التعريف بفضل التربية التي نشأت عليها, والتحاقي بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) في عام 1943, واحتكاكي بقضايا الوطن الصغير والوطن الكبير.
التحقت بقسم الصبيان بجمعية الشبان المسيحية في عام 1936 وكنت وقتها في السنة الثانية في مدرسة شبرا الابتدائية. وهذه الجمعية هي فرع من جمعية الشبان المسيحية بأمريكا والتي نشأت في عام 1851, ولم تكن نشأتها علي أساس ديني محافظ كما كان الحال في نشأة جمعية الشبان المسيحية بإنجلترا في عام 1844, وإنما نشأت علي أساس ليبرالي, أي علي أساس تعدد الرؤي وتعارضها بلا قيد أو شرط. وكان الذي يدير قسم الصبيان في ذلك الوقت مربيا عظيما اسمه يعقوب فام كان قد نال درجة الماجستير في التربية من جامعة ييل بأمريكا. وكان المذهب البرجماتي هو المهيمن علي المجال الفلسفي والمجال التربوي, وكان هذا المذهب هو التعبير عن الليبرالية. والذي دفع يعقوب فام إلي أن يكون مديرا لقسم الصبيان بعد عودته من أمريكا هو أنه كان يريد إصلاح حقل الطفولة والصبيان إذ كان يري أن المجتمع لا يهتم بهذا الحقل لأنه منغمس في تقلبات سياسية يمتنع معها الاهتمام بغير ذلك, والطفل المصري في رأي يعقوب فام عاجز عن المثابرة في أي عمل خال من المنفعة اللحظية, وهذا العجز هو السمة الأساسية التي يترتب عليها عدم الإتقان وعدم الوعي بالإتقان يعني عدم الوعي بقيمة الزمان, وإذا انعدم الوعي بقيمة الزمان انعدم الوعي بقيمة الواجب ومن ثم يصبح العمل مكروها ويصبح الخروج عن القانون مألوفا لأن العمل يستلزم القانون, والخروج عنه خروج عن العقل لأن القانون من صنع العقل. إذن العقل أساس التربية وقد تربينا في قسم الصبيان علي هذا الأساس وأن كل شيء من صنع العقل.
وفي نهاية السنة الثانية بقسم الفلسفة قرأت بالفرنسية كتاب نقد العقل الخالص للفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط وهو يقع عند قمة التنوير في القرن الثامن عشر ولفت انتباهي فقرة من كتابه تقول إن العقل خاصية متميزة في أنه محكوم بمواجهة مسائل ليس في الإمكان تفاديها إذ هي مسائل مفروضة عليه بحكم طبيعته بيد أن العقل عاجز عن الإجابة عنها, وفي هذا الإطار يميز كانط بين حالتين: حالة البحث عن اقتناص المطلق, وحالة اقتناص المطلق, والأمر الحاصل أن ثمة محاولات عديدة في البحث عن المطلق, ولكن تصور اقتناص المطلق بطريقة مطلقة يوقع الإنسان في الدوحماطيقية أي في توهم امتلاك الحقيقة المطلقة, ومن يومها وأنا مهموم بهذا الذي حدث لكانط وبدأت أتساءل: ما تأثير الدوجماطيقية في حياة البشر والمجتمعات والدول؟ ثم دار في ذهني هذا السؤال: من الذي يمثل الدوجماطيقية في هذا العصر؟ إنهم الأصوليون الذين يلتزمون حرفية النص الديني ويمتنعون عن إعمال العقل, ويكفرون ويقتلون من ينكر ذلك, وبذلك يمتنع التطور الحضاري.