في الوضع القائم ثمة أديان متعددة, ومع ذلك فإن كل دين يتصور أنه الدين الأوحد, أو شئت الدقة فقل الدين الحق وما عداه من دين آخر فليس كذلك. ومن هنا قيل إن هذا الدين كامن في الوضع القادم, ولكن مع الانتباه إلي الأديان الشائعة في كل من أفريقيا وآسيا لم يعد ثمة مبرر لتصور هذا الدين الأوحد أو الدين الحق, إذ الكل متساو إزاء مشروعية تعدد الأديان.
وكان الدليل علي ذلك مشروعية التأويل, إذ من شأن هذه المشروعية أن تفضي إلي توهم امتلاك الحقيقة المطلقة إزاء أي دين من الأديان, ويأتي في مقدمة الداعين إلي هذا الدليل مؤرخ الأديان ولفريد كانتول سميث, ولكن ماذا يكون الحال لو كان لدينا أديان من غير معتقد مثل ديانة الشنتو التي هي ديانة اليابان القومية؟ وقد كانت هذه الديانة بلا اسم حتي القرن السادس قبل الميلاد عندما جاء البوذيون ومنحوها هذا الاسم ومعناه طريق الآلهة.
وفي الأول من يناير من عام 1946 أعلن إمبراطور اليابان أن العلاقة بينه وبين الشعب تستند إلي الثقة المتبادلة ولا تستند إلي الأساطير وأن الإمبراطور ليس مؤلها وأن الشعب الياباني لا يتعالي علي أي شعب آخر. وكذلك كانت البوذية في بداية نشأته, كان يقال عنها إنها خالية من كلمة الألوهية لأن الكل يلتف حول بوذا بفضل قوته الساحرة.
وفي هذا السياق أصبح الحوار حادا بين الأديان شرقا وغربا كما أصبحت النسبية كلمة متداولة وشائعة, وكان من شأنها إفادة كل دين من الآخر من غير إلغاء لأي منهما, ومع ذلك كله فقد نشأت الأصوليات الدينية في العشرينيات من القرن العشرين من حيث إنها دعوة إلي لزوم امتلاك الحقيقة المطلقة لدين معين وهو الأمر الذي أدي إلي صراع الأديان أو بالأدق صراع المطلقات بحيث ينتهي إلي مطلق واحد.
والسؤال بعد ذلك: هل من سبيل إلي إنهاء هذا الصراع من غير الإخلال بالإيمان؟ كان الجواب بالإيجاب في حال التفرقة بين الإيمان والمعتقد؟ ولكن ما العمل إذا لم يكن في الإمكان الفصل بينهما؟ جاء الجواب جريئا من رئيس الكنيسة الإنجيلية القس الدكتور صموئيل حبيب في بحث قدمه إلي ندوة كان هو رئيسها في أوائل شهر سبتمبر من عام 1997 وكان موضوع الندوة الاستنارة الدينية والتفكير العلمي. وردت في هذا البحث عبارة مفاجئة ولكن لها مغزي مستقبلي وهي أن الله فوق الأديان, فالرأي الشائع أن دينا ما هو المعادل الموضوعي لله, أما هذه العبارة فهي علي الضد من ذلك إذ تفيد أن الدين, أي دين, ليس كذلك لأن الله يتجاوز الدين أيا كان. وإذا كان ذلك كذلك فمعني ذلك أن الدين أيا كان لن يكون هو المعادل الموضوعي للحقيقة المطلقة.
والسؤال إذن: إذا لم يكن الدين كذلك فماذا تكون الحقيقة عندئذ؟ تكون نسبية بالضرورة, ومع ذلك فثمة سؤال آخر, هل ثمة حقيقة نسبية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فيكون ذلك تناقضا في الحدود علي حد التعبير المنطقي لأن الحقيقة بحكم طبيعتها مطلقة بالضرورة, ويترتب علي ذلك عدم القول بالتعددية في مجال الحقيقة. ومن هنا ينتفي توهم امتلاك الحقيقة المطلقة, وإذا تم هذا الانتفاء انتفي التعصب, وإذا انتفي التعصب يكون التسامح هو البديل, وإذا كان ذلك كذلك فمعني ذلك عدم لزوم دعاة التبشير بدين واحد لا غير, وإذا لزموا التبشير فيلزم أن يكون تبشيرا بالتسامح.