في نهاية شهر مارس من هذا العام حذر البابا تواضروس الكهنة الجدد من فقر الإبداع, وكان يعني بذلك أن يكونوا متجددين. وعندما قرأت هذا التحذير ورد إلي ذهني كتاب كنت قد قرأته عنوانه مقال عن روح الأرثوذكسية صدر في عام 1938 من تأليف الفيلسوف الفرنسي جان جرنييه الذي تلقيت عنه محاضرات عندما كنت طالبا في السنة الثالثة بقسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول, وقد ارتأي بعد ثلاثين عاما من نشر كتابه أن يعيد طبعه في عام 1967 لأن الأحوال لم تتغير. والمغزي أن التغيير ليس بالأمر الميسور بوجه عام بل هو ليس كذلك عندما نكون مطالبين بتغيير الروح الأرثوذكسية بوجه خاص. ثم هو يخفف من صعوبة التغيير في عبارته الواردة في السطر الأول من المقدمة وقد جاءت علي النحو الآتي: هذا أمر مفهوم: ليس ثمة حقبة زمانية كان فيها الفكر متحررا تماما. ثم جاءت عبارة في خاتمة المقدمة متسقة مع العبارة الواردة في أولها وهي علي النحو الآتي: إن التصورات التي هاجمتها في عام 1938 مازالت علي حالها.
والسؤال إذن: ما هي الأرثوذكسية وكيف نشأت؟ إنها تعني في المسيحية الطريق القويم والمستقيم ويقابلها في الإسلام أهل السنة والحنابلة. والمغزي هنا أن أية فكرة مغايرة لن تكون مستقيمة وصادقة. ومن هنا يقال عن الأرثوذكسية إنها تنطوي علي الإقصاء. ومن هنا أيضا فإن الأرثوذكسي هو الذي يدعو الآخرين إلي أن يكونوا مشاركين له في إيمانه. وفي هذا السياق يقال عن إيمان الأول إنه عاطفي وعن إيمان المشاركين له إنه معتقد. وبناء عليه يقول الأول: دعه يأتي وإذا لم يفعل فهو إذن هرطيق لأن من ليس معي فهو ضدي. والنتيجة الحتمية بعد ذلك أن الهرطيق لن يجد نفسه إلا مع أقلية. ومن هنا يقال عن الأرثوذكسي إنه يتسم بالعناد والمؤمن يتسم بسكينة النفس, وفي عالم متغير فإنه يمسك بشيء ثابت لا يتحرك ويشعر بأنه متفق مع أكبر كمية من البشر. وفي هذا السياق فإنه يتجنب أسوأ سببين للشعور بالعذاب: الشعور بالوحدة في الكون والوحدة في المجتمع. وإذا كان موفقا في ذلك فإنه بعد ذلك يتقبل أي معتقد.
والسؤال بعد ذلك: وماذا تكون استجابة الأرثوذكسي إزاء النظريات العلمية؟ إذا ارتآها متناقضة مع إيمانه فإنه في البداية يتجاهلها ويلفها بالصمت. وإذا لم يكن ذلك ممكنا فإنه يبدأ في مهاجمتها من أجل سحقها. وإذا فشل في مهاجمتها فليس أمامه سوي الإعلان عن قبولها ولكن مع إحداث تلفيق بينها وبين معتقده.
وتأسيسا علي ذلك كله فقد ارتأي البابا تواضروس طريقا آخر يخلو من ذلك المسار الشاق في مواجهة المتغيرات وهو الإبداع, والإبداع بحسب تعريفي هو قدرة العقل علي تكوين علاقات جديدة من أجل إحلال وضع قائم مأزوم بوضع قادم. والعلاقات الجديدة هي القادرة علي تجسيد رؤية مغايرة. ومن هنا يمكن أن نحدث اختراقا للأرثوذكسية من أجل تطويرها علي نحو ما نشاء في سياق عبارة البابا تواضروس: حذار من فقر الإبداع.