المكان الوحيد الذي تمنيت أن يحبسوني فيه طوال الفترة الباقية من حياتي هو مكتبة فرنسية متخصصة في بيع الكتب السينمائية للقراء, تقع في قلب مدينة باريس, بها عدد كبير من الأرفف والكتب والمجلدات, والكثير منها حول نجوم ونجمات السينما في كل العصور, كتب بالأبيض والأسود وكتب بالألوان, ولا يوجد من بينها كتاب واحد يخلو من الصور الجميلة للأفلام, هذه الصور تصنع لك حالة كبيرة من الشغف والحنين إلي عصور حياتك المرتبطة بالسينما, وهذا النوع من الكتب يؤكد حالة الشغف بالسينما وأن مشاهدة الأفلام وحدها لا تكفي بل أن الأمر يستدعي أن تقرأ الكثير عن الأفلام وصناعها, وخاصة حول النجوم الذين يحبهم الناس, النجوم والنجمات هم نوارة عالم السينما, وما أكثر الكتب المصورة عن النجوم, تحب الناس أن تعرف الأسرار الخاصة بهؤلاء النجوم والنجمات.
وهناك قليل من الممثلين والممثلات فرضوا من خلال شخصياتهم الكتاب للكتابة عن مسيرتهم.
مثل هذا النوع من المكتبات غير موجود في مدننا العربية, رغم أننا مهووسون كثيرا بالسينما والأفلام.
من ناحية أخري ففي السنوات الماضية تعرفت علي مهندس معماري كبير لديه شغف شديد بالنجمة ميرفت أمين, وقد تردد كثيرا في الكتابة عنها, وقد زارني منذ أسبوعين, وقدم لي مسودة كتاب ضخم عن المسيرة الفيلمية للفنانة, خلت أنه شاهد كل أفلامها وهو يكتب عنها, ولو نشر هذا الكتاب فسيكون مختلفا تماما في المكتبة السينمائية وكل المشكلة هي العثور علي ناشر يؤمن بتقديم هذا النوع من الكتب.
أشاهد أفلام نبيلة عبيد منذ عام 1963 أي خمسة وخمسين عاما, منذ أن أدهشني فيلمها رابعة العدوية للمرة الأولي ثم شاهدته في الأسبوع نفسه نيابة عن أمي, وهي ابنة الشيخ أحمد بدوي الذي كان يؤم الناس في منزل القومندان في كرموز بالإسكندرية, كنت متأثرا كثيرا بجدي, وشعرت أن الفيلم يقربني من عائلتي المتدينة وبدت صورة رابعة العدوية في تحولاتها الحادة كما صورها الفيلم الذي أخرجه نيازي مصطفي صورة تتفق مع البنت الورعة التي هي فتاة أحلام الكثير منا, وبعد عامين عادت نفس الفتاة إلي شاشات دور العرض في دور تاريخي أيضا أمام عمر الشريف في فيلم المماليك وكان قد صار نجما عالميا فخطب الإعجاب مجددا, وهكذا صارت هناك نجمة سينمائية جديدة نذهب إلي دور العرض من أجلها نشاهدها في زوجة من باريس و كنوز و3 لصوص و السيرك وغيرها وهكذا تابعنا الفنانة, والآن بعد هذه السنوات الطويلة صارت الممثلة بناية فنية ضخمة من التراث الفيلمي, شاهد علي جديتها وأنها حرصت دوما علي أن تمتع الناس, وتجعلهم يفكرون, وتقدم لهم صورا صادقة من حياة كل منهم.
نعم فالممثلة في المقام الأول تشارك في صنع أفلامها, وفي الفترة التي تركت الآخرين يختارونها لأفلام كانت أعمالها تحتاج إلي المراجعة, حتي إذا قررت أن تصنع مسارها السينمائي لنفسها, تغيرت وغيرت وجه الشاشة المصرية بشكل ملحوظ.
لقد جاء الأوان للتحدث عما يسمي بالمرحلة اللبنانية في مسيرة الكثير من الفنانين والفنانات في مصر والتي بدأت في النصف الثاني من الستينيات, وانتهت بالتقريب مع بداية الحرب الأهلية الثانية, حيث اضطر الكثيرون من الفنانين في مصر أغلبهم من أصول لبنانية, والكثير من مصر للسفر إلي لبنان, حيث أتيحت لهم فرص عمل وسط ظروف مغايرة, بعضهم عمل بعيدا عن قيود الرقيب, لكن الجميع كانوا في حاجة إلي مخرجين ممن يجيدون إدارة الممثلين, والغريب أن المخرجين الذين سافروا لم يجدوا أنفسهم وسط مناخ يجعلهم في أحسن أحوالهم, ومن هذه الأسماء يوسف شاهين, وحسن الأمام, وعاطف سالم, ومع بداية السبعينيات انتبهت بعض الممثلات إلي ضرورة العودة والتوقف عن العمل في هذا النوع من الأفلام, وكانت نادية الجندي أول من فكرت أن تصنع فيلما علي هواها من إانتاجها, وكانت بمبة كشر 1973, أما نبيلة عبيد فقد تأخرت بعض الوقت كي تتخذ القرار فتقوم بالإنتاج, وتختار النص والمخرج, وكانت التجربة الموفقة من خلال فيلم وسقطت في بحر العسل الذي عرض عام 1977, كانت أمامها قصة البنت الأولي من رواية البنات والصيف التي تحولت إلي أول فيلم مصري يتضمن ثلاث قصص, علي غرار السينما الإيطالية, وقد وقع اختيار نبيلة علي المخرج الذي قدم القصة الثانية في الفيلم وهو صلاح أبوسيف, وكان المخرجان الآخران قد رحلا عن العالم, الفيلم الأسبق حول القصص القصيرة إلي أفلام قصيرة يجمعها فيلم واحد, أما القصة المتبقية فعليها أن تصلح لفيلم جديد, تضاف إليه الكثير من المواقف الكوميدية, وهكذا رأينا حكاية الفتاة مايسة التي تنزل إلي المصيف الفخم, وتتعرف علي بكر, ونري الكثير من الشخصيات الثانوية يؤدون أدوارا كوميدية, ومنهم سمير غانم, ويونس شلبي, في تلك الفترة كان المخرج يميل إلي النصوص الأدبية, وهذا هو الفيلم التاسع في حياته المأخوذ عن كتابات إحسان عبدالقدوس, والموضوع صالح للسينما التجارية, المصيف, وحكايات البنات مع الحب العابر, وملابس البحر, وحفلات السمر, وجلسات النميمة, وكانت التجربة كفيلة أن تلفت النظر إلي أننا أمام نبيلة عبيد مختلفة تصلح أن تكون نجمة لسينما السبعينات, بعد أن ارتضت القيام بإدوار البطلة الثانية, وكان عليها أن تعمل في أفلام أخري, وإن تكرر تجربة الإنتاج مجددا, وأن تكون لها سينما تناسبها, وهي التي صارت أكثر نجاحا وقبولا, وعليها أن تؤدي أدوارا تختلف تماما عن البطولة الأولي والمقصود بها رابعة العدوية.
نعم ليست هناك أي علاقة أو تشابه بين الزوجة في فيلم ولايزال التحقيق مستمرا وبين السيدة رابعة العدوية فالزوجة هنا هي المرأة الكريهة التي لا يمكن للمتفرج أن يتعاطف معها, ومن هنا جاءت صعوبة وعبقرية الاختيار, فهي الزوجة التي لا تتراجع عن خيانة زوجها مع أقرب أصدقائه, وتسعي إلي التخلص منه للفوز بحبيبها, إنها شريرة حتي أعلي الرأس, تتمتع بقوة شخصية, ومثل هذا الدور يحتاج إلي ممثل من نوع خاص, كيف تؤدي الدور ويعجب المشاهد بأدائها ويقتنع, وأن تموت مقتولة في النهاية, مثل هذا الدور يمكنه أن يغير من مسار الفنان إلي الأبد مثلما حدث مع هدي سلطان في امرأة في الطريق وشادية في الطريق وتحية كاريوكا في شباب امرأة ورشدي أباظة في الرجل الثاني والنماذج كثيرة.
هذه الصور تصنع لك حالة كبيرة من الشغف والحنين إلي عصور حياتك المرتبطة بالسينما
وهناك قليل من الممثلين والممثلات فرضوا من خلال شخصياتهم الكتاب للكتابة عن مسيرتهم
بعد هذه السنوات الطويلة صارت الممثلة بناية فنية ضخمة من التراث الفيلمي