في فيلمه السابق ديل السمكة 2002, استوحي وحيد حامد قصة شخص حقيقي, لساعر كان يعمل كشافا لعدادات الإضاءة في المنازل, وحاول من خلاله أن يتجول في قاع المجتمع المصري بكافة طبقاته, وفي فيلمه الجديد, استوحي الكاتب قصة طبال حي أمبابه الذي صار أمير إحدي الجماعات الدينية, وقدمها بكافة تفاصيلها.
يعني هذا أننا أما قصة حقيقية, عاشها الناس في التسعينات, مثلما ذكر الفيلم, وأن ذلك الواقع المليء بالتضاد, والعنف, موجود بيننا, وأننا لازلنا نحياه بدرجات مختلفة.
الفيلم باختصار حول الطبال والعروس, ففي المشهد الأول يقدم المخرج كافة مفرداته, من خلال الفرح الذي يتم في وسط حي إمبابة العروس حنان (مني زكي), والعريس سعيد (محمد شرف) الذي يهديه أحد أصدقائه قطعة حشيش لزوم ليلة الدخلة, والراقصة بدرية (صفوة), والطبال ريشة (محمود عبدالغني), وأيضا عم عبده (صلاح عبدالله). ثم سوف نري جابر (نور الشريف) فيما بعد. فالعروس قد لطخت وجهها بالمكياج بما يدل علي بيئتها التي تعيش فيها, والطبال يبدو كأنه يحدث الإيقاع مع جسد الراقصة, والعريس يبدو سعيدا علي طريقته, ويكشف العريس كافة كافة م ظاهر أفراح الحي الشعبي, فالمدعوون يتبادلون تعاطي المخدرات, وزجاجات البيرة, ويتفاعلون مع الراقصة, وهناك مجموعة من الملتحين يرقبون ما يحدث دون أن يتدخلوا , تمهيدا لمشهد لاحق, حين يقومون بتحطيم فرح آخر تحت قيادة ريشة نفسه الذي صار واحدا منهم.
كل هذه المفردات يقدمها المخرج قبل أن يدخل في موضوعه مباشرة, فهؤلاء الأشخاص, خاصة العروس والطبال, هم محود الأحداث, فالعريس يتم القبض عليه بتهمة إحراز المخدرات لتعطيها, والعروس يتم طردها ليلة الزفاف من بيت أم زوجها, لأن وشها وحش علي العريس, لنكتشف فيما بعد أن فتوة الحي (عمرو واكد) وريشة يهيمان حبا بالعروس, وأن كل منهما يود أن ينالها بطريقته, إما بالزواج, أو بأشياء أخري, ولاشك أن المعركة التي قامت بين الاثنين في البداية, وحطم فيها الفتوة عظام خصمه, كانت بمثابة بداية الأحداث, وتحول الطبال إلي الجانب الآخر, بأن راح يبحث لنفسه عن قوة يستند إليها.
في بداية الأحداث أيضا, افترش السيناريو الفيلم, وجميعها له علاقة مباشرة بالعروس اليتيمة التي يتولي تربيتها ورعايتها كل من عم عبده, وجابر, وقد بدت هذه الشخصية زائدة, أما عم عبده فكان إيجابيا وهو يبحث عن وظيفة للفتاة, كخادمة ليبعدها عن المنطقة, وسط هذه الصراعات التي تدور حولها, ورغم هامشية شخصية جابر بالنسبة للأحداث, فإن علاقات الديكة التي تربطهما, قد اكسبت الأحداث مذاقا, فهما صديقين قديمين, متنافران غالبا, متجاذبان أيضا غالبا, يتخذان القرار حول الفتاة بما يوحي التنافر والتجاذب معا.
تلاطمت العروس وسط هؤلاء الأشخاص, تحاول أن تبحث لنفسها عن أرض, ومكان للمبيت, إلي أن ماتت في النهاية برصاصات الشرطة ربما, برصاصات ريشة الذي صار إرهابيا من ناحية أخري, والفيلم كما أشنوا, هو محاولة لتصوير صعود شخصية ريشة إلي أن أصبح رئيسا لجمهورية إمبابة, هو الذي بدا حياته طبالا, ولم تكن توبته, أو تحوله, كنوع من الهداية, بل محاولة للثأر من الفتوة, الذي تم قطع يده في نهاية الأحداث.
ذكاء السيناريو, أن صعود نجم ريشة في عالم المتشددين دينيا, لم يكن حالة فردية, وإنما هو جزء من مجتمع أسري في المقام الأول, فالناس هناك متماسكة, مترابطة, وقد حاول ريشة أن يفرض قانونه باسم النصوص الدينية, وذلك لعدة أهداف, منها أن منصبه الجديد أعطاه السلطة, والقدرة أن ينفذ ما يشاء, ومنها الحصول علي فتاة أحلامه حنان, ومنها بالطبع رغبته في الانتقام ممن سبق له أن حطم عظامه لسبب عاطفي.
وقد دارت أحداث الفيلم, من خلال العمود الفقري لتحولات كل من ريشة, وحنان , وهي تحولات فيما يشبه الإنقلاب علي الحياة السابقة, وقد اتضح ذلك في ذروته, من هلال علاقة الطرفين بالموسيقي, ففي المشهد الذي يحطم فيه ريشة الطبلة في الفرح, يحدث أن تكتشف حنان روعة الموسيقي والرقص, وهي ترقب كيف يتم علاج المرض علي أنغام الموسيقي, فكل منهما يتخلي عن عالم كان ينتمي إليه, ويدخل إلي عالم آخر, وإن كان ريشة قد حاول ملامسة الطبلة كنوع من الحنين إليها, ملما فعل محامي جماعة إسلامية في فيلم طيور الظلام عام 1997, وهو أيضا مأخوذ عن حادثة, وشخصيات حقيقية.
إذن, فكلتا الشخصيتان, تشهدان تحولا حادا, تبعا للبيئة التي تنتقل إليها حنان, وتلك التي انضم إليها الطبال, حنان تجد نفسها تعمل خادمة, في مصحة علاجية بأحد الفنادق, ترتدي ملابس مختلفة, وتقوم بتسريح شعرها علي الموضة, وإن ظلت محتفظة بحبيبها نفسه كي تعود به مرة أخري إلي الحارة كي تلقي مصيرها الأخير.
وفي هذه الحياة الجديدة, تتعرف علي شاب يعالج المرض علاجا طبيعيا, وتحبه, وفي الوقت نفسه, فإن علاقتها بنادية, وصاحبة المصحة العلاجية, تتطور ببطء, حتي تصير أقرب إلي ابنتها, ولا تتخلي عنها بسهولة.
في مقابل صعود شخصية حنان, فإن ريشة يقف مخذولا, ضعيفا أمام باب المسجد, يأخذ الأوامر المتشددة من أمير الجماعة, كأنما باب المسجد مفتوح فقط من خلال موافقات الأمير, وبعد أن يعلن توبته, وهي مرتبطة بالمصلحة, تبدأ الجماعة في المراهنة عليه, ونعرف أن الجماعة لا تأمن إلي ريشة, بل تستخدمه كطلقة متفجرة في مواجهة خصومها, رغم أننا نراه المتسيد الأول علي الحي, دون أن نعرف مصير أنه أشبه بخيال ماتة, لكن حسبما رأيناه, فإنه استطاع أن ينفذ داخل هذه الصفوف لتكون كلمته الأولي.
وإذا كانت نادية قد قالت لحنان بعد أن أطمأنت إليها: بتفكريني بأيام حلوة عشان كده أنا دخلتك السلم من أوله, فإن الطرفين, حنان, وريشة الطبال, قد بدءا السلم من أوله, الشاب في طريق العنف والإرهاب الديني, والفتاة نحو الصود الاجتماعي الذي وصل إلي درجة طلب نادية من الشاب الذي أحبته حنان أن يتزوجها, وأن تدبر لهما كافة مستلزمات الزواج اجتماعيا, لكن الشاب رفض, لطموحه الحاد, وقبل وظيفة تنتظره في إحدي دول الخليج.
حاول السيناريو أن يربط مصيري الطرفين معا, فماتت الفتاة, وبقي الشاب علي قيد الحياة, يمارس إرهابه, وإن كان المشهد الأخير في الفيلم, له وهو يمارس هوايته باصطياد السمك. أسفل الكوبري الذي يربط بين إمبابه والمدينة.
ومن أجل توسيع أدوار نجومه, فإن جابر, الموظف الغامض, الذي ينتظر المال من القرية, قد تم توسيع دوره, لنري الجانب الآخر من حياته, فهو يرتزق من خلال إلقاء نفسه أمام السيارات العابرة, مما يربك السائق, وغالبا ما يكون فتاجة, تدفع له مالا سخيا, حتي لا يأخذها إلي الإجراءات الجنائية, وغير خفي أن هذه الشخصية, قد رينا مثيلاتها في فيلم فارس المدينة لمحمد خان, وقد عالجها الفيلم الأخير بنضج أكبر, يجعل من العصب تجاوزها.
مثلما كتب في فيلمه السابق ديل السمكة, وأيضا محامي خلع فإن وحيد حامد قد حاول أن يوجد صلة ما بين الفقراء والأغنياء, فقاريء العدادات, ينتقل بين أحياء الفقراء والأثرياء حسب رضاء المدير عنه, وهناك انتقال مشابه لشخصية حنان, من خلال ابنة الحي الشعبي التي تذهب إلي صالات القمار في الفنادق الكبري, وتتزوج من ثري عربي, فإن وحيد حامد انتقل أيضا بين نفس العالمين في فيلمه, لعدة اعتبارات, منها أن السينما الآن, تحب أن تغازل المشاهدين, وهم من الأثرياء بأن تقدم عالمهم, وقد تمثل القراء هنا, في فندق ضخم, يتردد عليه وحيد حامد ككاتب, منذ عشرين عاما, ويتم فيه تصوير الكثير من أفلامه, ومنها كشف المستور, والانتقال هنا, عاشته حنان التي وجدت نفسها تعمل في مصحة العلاج الطبيعي. والذي تمتلكه نادية (يسرا), التي يعرفها عم عبده من خلال عمله ساعيا في النادي الذي تتردد عليه نادية, بصفتها عضو فيه, وقد كشف الفيلم عن الجانب المضاد من نمط الحياة في إمبابه فالأغنياء يترددون علي الفنادق الكبري, لعدة أهداف ترفيهية, وقد قدم الفيلم مفردات هذا العالم في مشاهد متتابعة, خاصة ذلك الاتساع, والفخامة الذي رأينا عليه بيت نادية, التي قررت أن تتبني حنان.
من ناحية أخري, فإن الفيلم افترض أن التحول الذي حدث لريشة هو تغير شكلي, لينال من الراقصة جنسيا, وهو المحروم عاطفيا, لكن الراقصة ترفض تسلم له نفسها, وتقوم فيما بعد بإبلاغ الشرطة.
وهناك تشابه, واضح بين جابر, وريشة, ويبدو ذلك في الجمال الإنشائية التي يرددها جابر وهو يموت, بعد أن صدمته سيارة جاءت علي غفلة, محاولا تبرئة السائق, وهو يقول ماليش اسم ولا عنوان أنا مواطن عشوائي, فريشة أيضا مواطن عشوائي, لا نعرف له أسرة, ولا عنوان, بل أنه أفضل من الرجل العجوز في الجزء الأول من الفيلم, لديه وظيفة, وعمل, أما جابر, فإنه دجال, وكاذب, حتي وإن كان يتظاهر غير ذلك, وقد حاول الفيلم إعطائه قيمة إنسانية, فهو يربي الحمام, مثلما قام بتربية حنان, والاعتناء بها, وهو الذي يبدو دائما نبيلا مثاليا في محاولة دفاعه عن الفتاة.
الشخصية المهمة في الفيلم, بعد حنان وريشة هي عم عبده, وقد بدا ذلك في مشهد متميز, حين لا يتوقف عن الإلحاح أن توافق نادية علي أن تلحق الفتاة بالعمل لديها, وقد استهلك الاثنان من الشد والجذب حتي وافقت, وكشف هذا الحوار الساخن, مدي ما يتمتع به صلاح عبدالله من موهبة تحتاج إلي مخرج متميز من طراز داود عبدالسيد الذي قدمه في أحسن حالاته في مواطن ومخبر وحرامي, ثم محمد ياسين الذي قدمه هنا في أفضل حالاته, واستطاع أن يتطلع من حوله بقوة هذه الموهبة, طرحا تساؤلا مهما: لماذا تفسد السينما المصرية من لديها من مواهب في أفلام تافهة بحجة العمل للقمة العيش.
حاول وحيد حامد أن يستجمع أغلب أفلامه السابقة في فيلم واحد, وأن يقدم بطولات جماعية, لا تعتمد علي شخصية واحدة, مثلما كان يفعل إبان عمله مع عادل إمام, أو نبيلة عبيد, ويبدو أن هذا توجه ملحوظ في كتابته السينمائية, وسوف يتضح هذا بقوة أكثر في فيلمه المنتظر عمارة يعقوبيان.
في دم الغزال ـ الذي لا أعرف ماذا يعني ـ تأكدت موهبة محمود عبدالمغني, واستمتعنا بأداء جيد لأغلب من عملوا بالفيلم, وبدا محمد ياسين كأنه يجيد إمساك جميع الخيوط بأطراف أصابعه, دون أن ترتفع نبرة علي أخري.