ظلم النقاد المخرج كمال سليم (1912-1946) عندما توقفوا فقط, وفي المقام الأول عند فيلم العزيمة لكمال سليم بناء علي التقدير الذي قدمه الناقد الفرنسي جورج سادول للفيلم, فصار لدي النقاد والباحثين والمؤرخين هو الفيلم الأهم في السينما المصرية, حيث بدأت أفلام أخري تنازعه في المكانة, لكنه ظل دوما في الصفوف الأولي.
أغلب الظن أن سادول نفسه, وبقية النقاد لم يعطوا أفلام المخرج الأخري الاهتمام الذي تستحقه, فرغم تباين الموضوعات والمعالجات فإن الأسلوب هو نفسه من فيلم لآخر, وبدلا من الاحتفال بالمخرج علي أنه صاحب العزيمة فإننا سوف نشاهد اثنين من أفلامه الأخري كي يتعرف عليه الجديد من المشاهدين, وذلك كمحاولة لاكتشاف كمال سليم باعتبار أن الكتابات كثيرة عن فيلم العزيمة, فمن الظلم أن نعتبر أن هذا العبقري هو فيلم واحد خاصة أن حياته مليئة بالغبن, ومنها علي سبيل المثال قيام ممثل بوضع اسمه علي الفيلم الأخير الذي أخرج سليم جزءا كبيرا منه, وقام الممثل بنسبه إلي نفسه.
الأفلام الغنائية علامات بارزة في تاريخ السينما المصرية, والغريب أن الكثيرين من السينمائيين والمتفرجين يتصورون أن الفيلمين الأولين اللذين قام ببطولتهما المطرب فريد الأطرش هما فيلم واحد, والسبب هو التقارب الواضح بين اسمي الفيلمين (انتصار الشباب- أحلام الشباب), والسبب الأهم هو أن الفيلم الثاني لا يعرض إلا بشكل نادر في القنوات السينمائية, رغم الجودة الفائقة للنسخة الموجودة علي اليوتيوب, ما يعني أن إحدي القنوات الميسورة قامت بتجديد نسخته ولكنه لا يعرض علي القنوات لأسباب لا نعرفها, ومن المهم مشاهدة الفيلم والتعرف عليه لعدة أسباب منها أنه واحد من الأفلام التي تحمل اسم مخرج مهم للغاية, كما أنه من الأفلام المبكرة للكثير ممن عملوا به في كافة المجالات, الأعمال الغنائية الأولي في تاريخ السينما, ومن المهم التعرف عليه فهو يحمل سمات الفيلم الغنائي الذي ساد في السينما المصرية في الأربعينيات وحتي منتصف الخمسينيات, وهي سنوات الازدهار للفيلم الغنائي التي لم يكن لها أن تتنامي إلا من خلال وجود أسماء فنانين من طراز فريد الأطرش, ومن قبله عبد الوهاب ثم محمد فوزي فيما بعد, وذلك قبل ظهور عبدالحليم حافظ الذي كان من أواخر من صنعوا مجد الفيلم الغنائي, ونقول الفيلم الغنائي لأنه يخلو من الاستعراضات التي ملأت أفلام فريد الأطرش وغيرها غنا يذهب إليها الناس للفرجة, وسوف نلاحظ هنا أن الفيلم من أجل منح مديحة يسري فرصتها الأولي في البطولة, وهي التي بدت هنا بالغة الصبا والجمال, ولا يمكن أن تكون في حالة منافسة مع فتحية أحمد وعلي كل فإنها بطولة حقيقية بالنسبة لمديحة أن تستمر كل هذه السنوات الطويلة في السينما خاصة في فترات كان هناك تواجد حقيقي لنجمات الطرب اللائي تبوأن بطولات الأفلام علي مدي الأجيال ومنهن ليلي مراد, وصباح ونور الهدي وشادية فاختفت بعضهن وبقيت مديحة يسري التي لم تكن أيضا بالراقصة مثل تحية كاريوكا التي شاركتها بطولة الفيلم الذي نتحدث عنه والطريف أن مديحة شاركت فريد الأطرش بطولة ثلاثة أفلام منها ولحن الخلود 1952 ما يعني أن المطرب كان في الكثير من أعماله السينمائية يميل إلي العمل مع فريق يتكرر من الفنانات ومنهن سامية جمال ومريم فخر الدين وصباح, بالإضافة إلي تحية كاريوكا وفاتن حمامة.
أول ما يصادفك عند رؤية الفيلم الذي عرض عام 1942 بالنسبة للمشاهد في قرننا الحالي, أن الفيلم يكشف عن نضارة وجمال الصبا والشباب الأول لكل العاملين به, فمديحة يسري المولودة عام 1921, كانت بالتقريب في الحادية والعشرين وفي تلك السينما كانت عدسات الكاميرات منبهرة بجمال وجهها, وعينيها السودايين, لم تكن هنومة صاحبة عيون ملونة, ولا ملامح تركية أو أجنبية مثل الكثيرات من نجمات السينما, وقد بدت صبيحة الوجة تستحق أن يغرم بها الموسيقار الشاب فريد, والجدير بالذكر أن السينما وضعت مديحة في مثل هذه الشخصية في الكثير من الأفلام وبدت كأنها مغرمة بها, كما أن الصبوحة تبدو هي وجه وملامح البطلة الأولي في الفيلم تحية كاريوكا, سواء في اللقطات القريبة أو في أدائها ورقصاتها, وسوف نلاحظ أنها ترتدي بدلة رقص صارت مواصفاتها محرمة لدي راقصات اليوم, وهناك مشهد تبدو حلمة صدرها واضحة تحت ملابسها لكنها لن تخفي عن المشاهد المدقق, الشاب فريد بالغ الوسامة خفيف الظل, بليس له عمل محدد لكنه يغني في الليل في صالة ليلية.
إنه من الميسورين وقد بدت حبيبته الفتاة إلهام هنا فتاة جادة, ذات موقف فهي ترفض أن تتزوج من شاب ثري وتفضل أن يكون حبيبها طموحاص في بداية حياته, تسير معه طريق الكفاح عن كونه ابن أثرياء, وسوف نري العاملين في الفيلم في أفضل حالاتهم قبل الحديث عنهم, فهذا هو فريد الأطرش في أول أدواره الكوميدية ويؤكد أنه صاحب مواهب تمثيلية ينكرها عليه الكثير من النقاد, وقد كان الفيلم بمثابة البكارة للكثير من الممثلين الذين عملوا كثيرا في التمثيل منهم نجوي سالم التي لم يظهر اسمها ضمن التترات, وهي ظاهرة موجودة في أفلام كمال سليم, لاحظناها في فيلم البؤساء الذي أخرجه في العام التالي.
الفيلم مستوحي كما تقول العناوين من مسرحية لا تعرف عنها شيئا باسم اللزقة تأليف يوسف وهبي, وهذا يفسر أن الأماكن في الفيلم محدودة لا يكاد الأبطال يخرجون منها, إلا ربما إلي الحدائق للغناء, أو في قاعات العروض التي يجلس فيها جمهور يتسم بالأدب الشديد, يجلس حول موائد في حالة تأنق شديد ويستمعون إلي الغناء, وبالتالي فإن القصة البسيطة التي يحكيها الفيم تتقاطع مع أغنيات عاطفية في المقام الأول, والقصة عن شاب ثري متعدد العلاقات يمشي أثناء النوم ويسوقه المرض هذا إلي الوقوع في بيت أسرة صغيرة تتكون من الزوجين وابنتهما إلهام, ويصاب بكسر في القدمين, ويبقي في المنزل إلي أن يتم الشفاء, ويقوم في تلك الأثناء بتدريب إلهام للعزف علي البيانو, وسرعان ما تتنامي المشاعر بين الطرفين, ويصبح علي فريد أن يتخلي عن علاقته مع الراقصة بهية شفشق, التي لا تتخلي بسهولة عمن تحب, تفسد عليه فرحه, ثم تصلح بين الحبيبين, هذا أمر طبيعي في الفيلم الغنائي فالناس تذهب إليه بهدف الاستماع ولذا فإن الكوميديا هي الثوب الأكثر مناسبة لصياغة الأفلام, فيما عرف بالكوميديا الموسيقية. ومن هنا فأن أغلب المشاركين في الفيلم من نجوم الصف الثاني هم ممن اشتهروا بالأداء الكوميدي, ومنهم ماري منيب, وعبدالفتاح القصري, وبشارة واكيم, وحسن فايق, وسيد سليمان, الغريب أن يوسف وهبي صاحب المسرحية كان أكثر براعة في المأسويات ولا أعرف القليل عن هذه المسرحية لكن يبدو أنها مسرحية قصيرة من التي كان ينشرها في المجلات الفنية, وكان يكتبها للقراءة أكثر منها أن تكون للتمثيل.
وعليه فالفيلم بمثابة حالات متتابعة من الغناء بينها مواقف تمثيلية سريعة, وربما لهذا السبب يبدو الفيلم غريبا بين الأعمال التي أخرجها كمال سليم, الذي حاول الخروج من أسر فاطمة رشدي له, كأن الفيلم بمثابة استراحة محارب وذلك قبل أن يعود إلي معترك الأفلام المأسوية ضخمة الإنتاج, مثل البؤساء, وشهداء الغرام, ثم قصة غرام, وهي أفلام مأخوذة عن عيون الأدب العالمي في القرن التاسع عشر.
نعم هي استراحة محارب, يصنع فيها المخرج النجومية لأبطاله الجدد, ويلجأ إلي المعادلة التي صارت مشهورة في السينما وهي البتول في مواجهة الراقصة, الأولي تحب في حياتها مرة واحدة فقط, وتتصرف بنبل شديدة فالفتاة إلهام صار عليها إعادة الوثائق التي أهداها لها حبيبها وهي علي خصام معه, بعد أن عرفت أن هذه الأوراق تؤكد أن فريد ورث الكثير من المال, حتي وإن صدمت ليلة زفافها أن حبيبها في حياته امرأة أخري هي نبوية شفشق, هذه الراقصة امرأة متعددة العلاقات, يلتف الرجال حولها مثل ذكور النحل, وهي تحب المطرب باعتباره من أملاكها, وهي لن توافق أبدا علي التراجع عن موقفها إلا إذا تم تهديدها, ومعاملتها بالعنف وتحطيم الصالة التي تعمل بها وتضطر للذهاب إلي إلهام وتكذب عليها فيما يخص علاقتها بفريد حتي تستقيم الأمور, بما يعني أنها لا تعرف التوبة بقدر ما تعرف الردع, وتكاد تكون هذه هي الحبكة الأهم في الفيلم, وقد تعلمنا من هذه الحبكة أن الفيلم الغنائي يفضل أن يخلو من قصص ذات قيم إنسانية, والغريب أن محمد كريم قد استوحي روايات عالمية مأساوية من أجل أن يقوم ببطولتها مطربه المفضل محمد عبدالوهاب, أما فريد الأطرش فقد غير المخرجون الذين عملوا معه فيما بعد من آليته فاقتبسوا له روايات مشهورة علي مدي رحلته ابتداء من بداية الخمسينيات, بعد أن قدم الكثير من الأغنيات في أفلامه التي لم تكن بأهمية ألحانه.
ولاشك أن فريد الأطرش قد رأي أن هذا النوع من الألحان يناسبه بقوة, وأنه بذلك يقدم مشروعه كملحن, سواء لنفسه, أو للمطربة فتحية أحمد التي استعاض بها هنا عن شقيقته أسمهان في الفيلم الأول الذي شاركته البطولة والغناء, وسوف نلاحظ التيمات اللحنية للفنان في أغنيات الفيلم منها مثلا أغنية مادام تعاندني التي تتضمن لحنا مشابها لفريد استمعنا إليه فيما بعد وهو غالي يابوي والله عليا, وأيضا التشابه بين تانجو أهواك, وأغنية لفريد باسم قالت لي بكرة, التي لحنها بعد هذا التاريخ بستة عشر عاما.
هذا التانجو يحمل عنوان ابن سوريا وابن مصر وهو من أوائل الألحان التي تنبأت بالوحدة بين سوريا ومصر قبل حدوثها بسنوات.
في تلك السنوات كان الأجانب هم في الغالب الأبرز في العاملين في السينما المصرية مثل المصور سامي بريل الذي كان مهتما بشكل ملحوظ بالإضاءة والتركيز علي وجوه بطلاته بشكل خاص, وبدا مهتما دوما بتقديم بورتريهات, أو لقطات قريبة لكافة شخوص الفيلم وباعتبار أن المخرج يجيد توجيه فريق التمثيل الذي يعمل معه, ولا أعتقد أن المشاهد يمكنه أن يري الأبطال الثلاثة في أفضل أشكالهم قدر ما رأينا فريد, ومديحة, وتحية ولعل هذا يؤكد لنا أنه رغم بساطة القصة والأغنيات الكثيرة, وقلة الحوار, فإن كمال سليم استخدم خبرته في إدارة الممثل وقد بدا هذا بكل وضوح في أفلامه الأخري, وبدا ممثلون مثل بشارك واكيم, والقصري في حالة توهج, وإن كنت قد أحسست أن عباس فارس لم يختبر مثلما سوف يفعل مع المخرج نفسه في فيلمهما التالي البؤساء, وكان المخرج قد كان له السبق أن يقدم أدوارا بارزة لحسن فايق في دور الشاعر الحلمنتيشي, ورأينا الممثلة نجوي سالم في أول أدوارها, وهي التي صارت من نجمات المسرح البارزات فيما بعد.
في هذا الفيلم بدأنا نقرأ سطوة المطرب في اختيار الاسم الذي يسمي به في أفلامه أما وحيد, أو فريد, رغم أن الأطرش لم يكن منتجا لها مثلما سيحدث في أفلامه التالية, ربما أسوة بالملحن محمد عبدالوهاب الذي احتفظ باسم محمد أو محسن في أفلامه, وهي ظاهرة لم تتكرر عند مطرب سينمائي فيما بعد.
@live.comkassem1949