كالعادة لفت جمالها أنظار واحد من العابرين إلي جوارها بسياراتهم, فراح يرميها بكلمات الغزل, ويتتبعها من إشارة مرور إلي أخري حتي وقف بسيارته إلي جوار سيارتها, وجدد محاولاته لاصطيادها, كما تجلو العبارة لدي الذكر المصري, فتحت النافذة القريبة منه, وقالت له بكل ثقة: لو سمحت, هل شكلي يوحي إليك أنني من النساء القابلات للمعاكسة بهذا الأسلوب؟
وبكل وقاحة ألقي عليها معاكسة جديدة.. فردت عليه بكل وقاحة مقابل ما فعل, وانطلقت في طريقها.
هذه كانت أسماء البكري (1947 ـ 2015) التي عرفتها في العام 1977, فتاة في الثلاثين من عمرها بالغة البساطة, والجمال, تتقن العديد من اللغات, وتقرأ بها جميعا, تعيش بين القاهرة والإسكندرية, أبوها سليل عائلة البكري, وأمها طبيبة ألمانية جاءت لتعيش مع زوجها في القاهرة, وهي التي صارت تدير قصر السكاكيني, لا أعتقد أنها كسبت يوما ما مليما واحدا من مهنتها, وكانت تتطوع لأعمال الخير بكل اتساع وبلا حدود, سمعت ابنتها تناديها دوما باسم فرنسي هو مويت, أقرب إلي ياقطتي, كانت متدينة تذهب إلي الكنيسة صباح الأحد لتؤدي الشعائر, عاشقة للثقافة العالمية, وتتكلم الكثير من اللغات, لعلها تسع, وتقرأ بهم, سيدة بيت في المقام الأول, احتفظت بصحتها حتي اليوم الأخير من حياتها, عاملتها دوما علي أنها أمي, وكانت أهلا لذاك, أما ابنتها التي صارت مخرجة سينمائية, فهي تختلف عن الابن الوحيد حسام الذي عاش في بلجيكا واستقر هناك, أحبت أسماء السينما, وكانت أنسب أن تكون نجمة, عملت دوبلير عام 1972 مع المخرج سعد عرفة في فيلم بيت من رمال والمفروض أنها ترمي بنفسها في البحر لتغرق بديلا عن الممثلة بوسي, استطاعت أن تكون علاقات وأخرجت فيلمها الأول القصير قطرة ماء حول حاجة الصحراء المصرية إلي المياه من أجل أن تقوم الحياة, وظلت تحلم بعمل فيلم روائي, وقدمت فيلمها الثاني عن المتحف الروماني المصري بالإسكندرية الذي التقت فيه ذات يوم مصادفة بالكاتبة الفرنسية مرجريت يورسنار, أول امرأة تصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية, كنت منبهرا بها, وكلما صادقت شخصا مثقفا مرموقا في الإسكندرية أكتشف أنه من معارفها, أو العكس, ومنهم أحمد فؤاد البسيوني, ومحمد البسيوني, أكثر من عرفت إلماما بالسينما والأدب في العالم, جمعتها القراءة بأصدقائها في كل أنحاء العالم, وكانت تستضيف الكثيرين منهم في شقتها الواقعة أمام مبني محافظة الإسكندرية, أو الواقعة في شارع رمسيس المجاور لدار التحرير الآن, يجمعها بأصدقائها المشاركة في القراءة بغزارة كل ما يخص التاريخ القديم: الفرعوني, واليوناني, والروماني, والقبطي, كنت كلما أتيت إلي القاهرة أزورها, وأحيانا أقضي ليلتي بين كتبها فلا أنام الليل, حتي أتصفح كل هذه العناوين في الأدب والسينما, وشدتني رواية شحاذون ومتكابرون للروائي المصري ألبير قصيري, وأخذتها معي, وقرأت منها صفحات طويلة في القطار, وقررت أن أترجمها, وفي أول لقاء حدثتها عن روعة الرواية, اقترحت عليها أن تحولها إلي فيلم, وسرعان ما أعادت الكتاب إليها, ودفعت بترجمتي إلي الأستاذ فتحي العشري, ونشرها في سلسلة الرواية العالمية, أما هي فقد بدأت كتابة السيناريو مع صديقها المقرب أكثر حسام زكريا, هو رجل صاحب حس ساخر شعبي, وبدأت تدبر الأموال للإنتاج من فرنسا, وأنتجت الفيلم من خلال يوسف شاهين, وعندما عرض فيلم شحاتين ونبلاء في فرنسا قوبل باستحسان كبير, عكس وجهات النظر الضيقة التي رأت أن الفيلم يسيء إلي صورة الحياة عندنا, رغم أن جوهر بطل الرواية هو أستاذ تاريخ اعتزل العمل احتجاجا علي تزييف المادة في المناهج.
وعايشت أسماء البكري في نجاحها, كنت شديد الإيمان بها وبثقافتها, وبساطتها وطموحها, صارت لها خطتها السينمائية التي تعثرت أحيانا, وأنجزت فيلمها الروائي الثاني كونشرتو في درب سعادة 1999, ثم عادت إلي رواية العنف والسخرية من تألف ألبير قصيري أيضا, وقدمت الفيلم في أواخر العقد الأول من القرن الحالي, وفي هذه الأثناء انشغلت بعمل أفلام عن الموسيقي العالمية.