إن أسباب الأزمة الاقتصادية كثيرة ومتعددة, فهي تراكمات خمسة وثلاثين عاما, تأصلت وتفاعلت وامتدت جذورها في جميع مناحي الحياة والنشاط حتي أصبح اقتلاعها ومعالجتها من الصعوبة بمكان مستوجبا الكثير من التضحيات وتعاون جميع قوي الشعب والحكومة معا.
إن الحروب الأربع التي خاضتها مصر, وهي حرب اليمن وحرب 1956 وحرب الأيام الستة وحرب النصر سنة 1973, والتجهيز لهذه الحروب, والأسلحة الضخمة التي استخدمت فيها, كلفت البلاد مبالغ طائلة فاستنزفت كل مدخراتها, بل وأوقعتها في كثير من الديون ثمنا للأسلحة التي تم شراؤها من الدول المختلفة وبأسعار باهظة.
اتخذ الكثير من السياسات وصدر العديد من القوانين إرضاء للطبقات العريضة من الشعب, دون أي تفكير أو دراسة لآثارها السلبية في المدي البعيد.. ومثلا لذلك قوانين الإيجارات التي صدرت لإرضاء الساكنين وكسب تأييدهم وتصفيقهم, وكانت النتيجة وبالا علي هذه الطبقات, إذ امتنع المستثمرون عن استخدام مدخراتهم في التشييد, في وقت كانت تكلفة المباني متدنية للغاية, وقد أدي ذلك إلي الأزمة الخانقة في الإسكان التي يعاني منها الشعب الآن.
إهمال اقتصاد البلاد إهمالا تاما, وإعطاء النواحي السياسية والعسكرية كل اهتمام الحاكم, بل اتخذ الكثير من القرارات والإجراءات التي أساءت كل الإساءة إلي النواحي الاقتصادية فبدلا من أن يكون النمو الاقتصادي هو الموجه الرئيسي لكل القرارات السياسية, كما هو الأساس في جميع الدول المتقدمة, أصبح الاقتصاد يتخبط ويتدهور نتيجة لقرارات سياسية خاطئة وسيئة.
لإرضاء الطبقات العاملة واجتذاب تأييدها عدلت قوانين العمل أكثر من مرة لإعطائهم الكثير من الحقوق, بدون النظر إلي ما يجب أن يؤديه العامل لزيادة الإنتاج نظير هذه الحقوق. بل لقد أعطي العمال الكثير من السلطات لدرجة أن أي شكوي من عامل ضد رؤسائه كانت تؤدي إلي تحقيقات قاسية من جهات متعددة, ولذا أصبح العامل مدللا وصاحب الكلمة الأولي في المصانع مما أدي إلي تدهور الإنتاج كما وكيفا.
تعديل نظام التعليم وجعله مجانيا في جميع مراحله, مما أدي إلي اندفاع الجميع نحو التعليم الجامعي, فأوجب هذا التوسع إنشاء الكثير من الجامعات وتكدسها بالطلبة بدون إعداد الكوادر العملية والفنية من مدرسين وأساتذة متخصصين في الخبرات اللازمة, لتعليم هذه الأفواج الضخمة من الطلبة, مما أدي إلي هبوط شديد في مستوي التعليم, وإغراق البلاد بمتخرجين أنصاف متعلمين لضحالة ما حصلوا عليه من دراسة.. كما أدت هذه السياسة الخاطئة إلي عجز كبير في التخصصات الحرفية اللازمة للصناعة.
لقد كانت الرئاسات المسيطرة مشغولة بالنواحي السياسية والعسكرية وأطلقت شعار لا صوت يعلو علي صوت المعركة وأهملت الخدمات الضرورية وتركتها بدون صيانة أو تجديد مما أدي إلي تهالكها وتدهورها, وأصبحت الشوارع غارقة في مياه الصرف الصحي, ومياه الشرب مختلطة بالأتربة والوحول, ومن الصعب استخدام التليفونات التي بلغت نسبة العطل بها 85%, أما مشكلة المواصلات فتعقدت وأصبح الانتقال من مكان إلي مكان آخر سواء بين المدن أو داخلها معضلة يصعب التغلب عليها.
أما مشكلة الانفجار السكاني, والزيادة الكبيرة في معدل المواليد, فقد أقلقت الحكومات المتوالية, وأزعجت المفكرين, إذ أدي هذا إلي اتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك, مما جعل العبء يزداد ثقلا وباستمرار علي ميزان المدفوعات لاستيراد المواد الغذائية اللازمة لهذه الجيوش المتزايدة من السكان, وحتي عندما زادت موارد البلاد من العملات الأجنبية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات سواء بازدياد دخل قناة السويس والسياحة وحصيلة البترول المرتفعة وتحويلات العاملين بالخارج, لم يخطط لاستخدام هذه الحصيلة الهائلة لصالح الاقتصاد المصري, وترك الحبل علي الغارب لاستخدام هذا الكم الكبير من العملات استخداما عشوائيا لم تستفد منه البلاد كما كان يرجي.
لقد أهملت هذه المشاكل طوال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات, وتأخر إصلاحها إذ لم يكن مسموحا بالبحث في أسبابها ووسائل علاجها, وتركت تتراكم سنة بعد أخري حتي استفحل شأنها.
وسنناقش في الحلقة القادمة أعراض الأزمة الاقتصادية التي تحيق بالبلاد الآن.