أنطون سيدهم .. ومشوار وطني
أنطون سيدهم .. والقضايا الاقتصادية
منذ أوائل القرن التاسع عشر, أخذت الدول الغربية في دخول عصر الصناعة, وابتدأ العالم ينقسم إلي دول صناعية متقدمة, ودول زراعية متأخرة, إذ أصبحت الصناعة مصدرا للتقدم والرخاء, كما أخذت التجمعات العمالية في الظهور, وأدت إلي نشوء نقابات العمال لتنظيم صفوفهم, والمطالبة بقوانين للمحافظة علي حقوقهم.
وفي مستهل النصف الثاني من القرن العشرين, بعد استقلال مصر وبدء الحياة الديمقراطية بها, قامت النهضة الاقتصادية بقيادة المرحوم طلعت باشا حرب, فأنشأ بنك مصر الذي ساند إنشاء الكثير من الصناعات, كصناعة الغزل والنسيج بالمحلة الكبري, وغيرها, وتلا ذلك قيام صناعات الغزل والنسيج بكفر الدوار والإسكندرية, ثم صناعة الأسمدة بالسويس, كما أن صناعة السكر بنجع حمادي أصبحت من الصناعات المتقدمة, وكان إنتاجها يغطي جميع احتياجات البلاد من أجود أنواع سكر القصب الشديد الحلاوة.
وبتأميم المصانع, واستيلاء الحكومة عليها في سنة 1961, وتكون القطاع العام, وسياسته البيروقراطية الارتجالية, تم إنشاء الكثير من الصناعات دون دراسة دقيقة, سواء من ناحية نوع الصناعة ومدي احتياج البلاد إليها, أو وجود المواد الأولية اللازمة لها, أو أماكن إنشاء المصانع ومدي ملاءمة هذه الأماكن لسلامة وتكاليف الإنتاج, كل هذا أدي إلي تدهور إنتاج الصناعات القديمة, من حيث كمية الإنتاج وجودته وتكلفته, فقد أصبح إنتاج هذه الأماكن لسلامة وتكاليف الإنتاج, كل هذا أدي إلي تدهور إنتاج الصناعات القديمة من حيث كمية الإنتاج وجودته وتكلفته, فقد أصبح إنتاج هذه المصانع الذي اشتهر علي المستوي العالمي بالنوعية الممتازة في الماضي, أصبح مرفوضا من الأسواق العالمية.. أما الصناعات الجديدة التي أنشئت ارتجاليا وتداول إدارتها من لم يكونوا علي درجة عالية من الخبرة والدراية, وكان الكثير منها يعمل بآلات وأجهزة قديمة تنقصها التكنولوجيا الحديثة, فلم يعد إنتاجها ينافس الإنتاج العالمي, سواء من حيث الجودة أو السعر.
أما ما أدخل علي القوانين من تعديلات متوالية, بغرض ممالأة الطبقات العاملة لكسب رضاها وتأييدها فقد أساء إلي الصناعة إساءة بالغة, وأدي إلي تدهور إنتاجها, وارتفاع تكاليفه وعلي سبيل المثال, فإن أغلب إنتاج مصانع النسيج, وخصوصا من الأصناف الشعبية بلغ من السوء حدا لا يمكن تصوره, ولا يمكن مقارنته بما كانت تنتجه مصر سابقا من هذه الأنواع, التي كان كل منها يفخر بها.
إن قوانين العمل المطبقة بمصر وما فيها من حقوق وامتيازات للعامل, وما تفرضه علي صاحب العمل من أحكام, تضر بالإنتاج, وتجعل المستثمرين الأجانب يحجمون عن إنشاء الصناعات الحديثة بمصر, هؤلاء المستثمرون الذين تعمل أغلب الدول علي اجتذابهم للنهوض باقتصادها, وتشجيعهم علي إنشاء العديد من الصناعات المتقدمة, مستخدمة الاختراعات والتكنولوجيا التي وصل إليها العلم والبحوث المتواصلة.
لقد حاول أنور السادات في اجتماعاته برجال الأعمال الأمريكيين إقناعهم بالعمل علي إنشاء مصانع حديثة بمصر, وقدم لهم الكثير من الإغراءات والتسهيلات, ولكنهم رفضوا رفضا باتا الإقدام علي ذلك ما لم تعدل قوانين الضرائب وقوانين العمل.
إن ما نراه الآن من قيام العمال ونقاباتهم في الخارج بالعمل المتواصل لزيادة الإنتاج, لكي تقل التكلفة ويزيد التصدير, فتتقدم الصناعة وتهبط نسبة البطالة, يعطي صورة واضحة علي منحي جديد لتفهم العمال ونقاباتهم للأوضاع السليمة, ووجوب تعاونهم وتفانيهم لزيادة الإنتاج لمصلحتهم ولمصلحة بلادهم.
لقد حدث في اليابان عندما تقرر تخفيض أيام العمل الأسبوعي إلي خمسة أيام بدلا من ستة, واحتج العمال عليه, خوفا من إضعاف الإنتاج, وإظهارا لاستيائهم, أن أضربوا ساعتين في أول اليوم, ولكنهم -محافظة علي الإنتاج- عملوا بدلا عن ذلك ساعتين في آخر النهار.
أما ما يحدث من نقابات العمال الآن في أمريكا لزيادة الإنتاج, فإنه يعطينا درسا مهما, إذ أنها تقوم -وعلي حسابها الخاص- بتنظيم دراسات ودورات تدريب مهني لعمالها لإعدادهم لمواجهة تطورات التكنولوجيا الحديثة, حتي يصبح الإنتاج قادرا علي الصمود أمام المنافسة العالمية, وتستعين النقابات في هذا بجميع الجهات العلمية كالجامعات ومراكز الأبحاث, كل ذلك علي نفقتها.
هذه هي النظرة الواعية الآن للعمال ونقاباتهم, وليس كما رأينا عندنا في السنوات السابقة من سعي نقابات العمال للحصول علي مزيد من الحقوق والامتيازات المتوالية, دون مراعاة لما يقابلها من واجبات لتقدم الإنتاج من حيث الكم والجودة.
من واجبنا الآن -ونحن في مفترق الطرق- أن تتدارس الدولة مع نقابات العمال, أحدث الوسائل لتعديل قوانين العمل, بما يؤدي إلي مضاعفة الإنتاج, وتشجيع المستثمرين الأجانب علي المساهمة في إنشاء المصانع الضخمة بأحدث الاختراعات والأساليب الحديثة.
فإن مستقبل البلاد يستوجب تضافر قوي رجال الأعمال ونقابات العمال علي العمل الجاد والواعي, ومضاعفة الجهود وحشد جميع الطاقات, التي لا بديل عنها لبناء مصر علي قواعد متينة, ولتوفير حياة أفضل للأجيال المقبلة.
إن البناء الجديد للوطن ينبغي أن ينهض علي أسس راسخة ودعائم ثابتة تصمد للأهواء والمطامع, وتصد تيارات العواصف والتقلبات.. وأن يشارك فيه المواطنون -جميع المواطنين علي اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم ومناحيهم, فلا يكون هناك مجال لسلبية أو تواكل, وحتي لا تعتمد الغالبية علي الحكومة في جميع مناحي الحياة من تعليم وعلاج وخدمات وتدبير الأعمال والوظائف مما يجعل المواطن لا هم له إلا أن يأكل وينجب ويسهر بجوار التليفزيون بغير اكتراث للعمل والإنتاج, وهو ما أدي إلي هذه الحال المؤسفة التي يجب أن نسارع جميعا للعمل علي الخلاص منها.