الروح تسمو فوق مستوي المادة والطعام, وفوق مستوي الجسد, فتقود الجسد معها في موكب نصرتها, وفي رغباتها الروحية. ويعبر الجسد عن هذا بممارسة الصوم.
إن قصرنا تعريفنا للصوم علي أنه إذلال للجسد بالجوع والامتناع عما يشتهيه, نكون قد أخذنا من الصوم سلبياته, وتركنا عمله الإيجابي الروحي.
الصوم ليس جوعا للجسد, بل هو غذاء للروح.
ليس الصوم تعذيبا للجسد, أو استشهادا للجسد, أو صليبا له كما يظن البعض. إنما الصوم هو تسامي الجسد ليصل إلي المستوي الذي يتعاون فيه مع الروح. ونحن في الصوم لا نقصد أن نعذب الجسد, إنما نقصد ألا نسلك حسب الجسد, فيكون الصائم إنسانا روحيا وليس إنسانا جسدانيا.
الصوم هو روح زاهدة, تشرك الجسد معها في الزهد.
والصوم ليس هو الجسد الجائع, بل الجسد الزاهد.
وليس الصوم هو جوع الجسد, إنما بالأكثر وتسامي الجسد وطهارة الجسد. ليس هو حالة الجسد نظره.
الصوم فترة ترتفع فيها الروح, وتجذب الجسد معها.
تخلصه من أحماله وأثقاله, وتجذبه معها إلي فوق, لكي يعمل معها عمل الرب بلا عائق.. والجسد الروحي يكون سعيدا بهذا.
الصوم هو فترة روحية, يقضيها الجسد والروح معا في عمل روحي. يشترك الجسد مع الروح في عمل واحد هو عمل الروح. يشترك معها في الصلاة والتأمل والتسبيح والعشرة الإلهية.
نصلي ليس فقط بجسد صائم, إنما أيضا بنفس صائمة.
بفكر صائم وقلب صائم عن الشهوات والرغبات, وبروح صائمة عن محبة العالم, فهي ميتة عنه, وكلها حياة مع الله, تتغذي به وبمحبته.
الصوم بهذا الشكل هو الوسيلة الصالحة للعمل الروحي. هو الجو الروحي الذي يحيا فيه الإنسان جميعه, بقلبه ونفسه وروحه وفكره وحواسه وعواطفه.
الصوم هو تعبير الجسد عن زهده في المادة والماديات, واشتياقه إلي الحياة مع الله. وهذا الزهد دليل علي اشتراك الجسد في عمل الروح. وفي صفاتها الروحية. وبه يصبح الجسد روحيا في منهجه, وتكون له صورة الروح.
في الصوم لا يهتم الإنسان بما للجسد. لا تهتم الروح بهذا, ولا يهتم الجسد به أيضا في حالته الروحية.
* لا تهتموا بما للجسد
في حديث الرب عن الغذاء الروحي, نسمعه يقول:
اعملوا لا للطعام البائد, بل للطعام الباقي للحياة الأبدية (يو6:27). وبعد هذا يحدثهم عن الخبز النازل من السماء, الخبز الحقيقي, خبز الله, خبز الحياة (يو6:32-35). إنه هنا يوجه إلي الروح وغذائها, ويقود تفكيرنا في اتجاه روحي, حتي لا ننشغل بالجسد وطعامه.
وحينما ذكر عبارة ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان (مت4:4). إنما أراد بهذا أنه ينبغي للإنسان ألا يحيا جسديا يعتمد علي الخبز كطعام له, ناسيا الروح وطعامها. وعن طعام الروح هذا قال لتلاميذه: لي طعام لآكل لستم تعرفونه (يو4:32). يخطر علي فكرنا سؤال هو:
هل كان المسيح علي الجبل صائما أم يتغذي؟
والجواب هو: كان صائما, وكان أيضا يتغذي.
كان صائما من جهة الجسد.. وكان يتغذي من جهة الروح.
كان له طعام آخر لا يعرفه الناس. وبهذا الطعام استطاعت الروح أن تحمل الجسد الصائم طوال الأربعين يوما, التي لم يهتم فيها الرب بطعام الجسد, أو ترك الجسد يتغذي بطعام الروح..
إنه يعطينا درسا أن نهتم بما للروح, وليس بما للجسد. وفي هذا المجال نضع أمامنا كلام الوحي الإلهي علي فم معلمنا القديس بولس الرسول إذ:
يشرح موضوع الاهتمام بما للجسد وما للروح.
فيقول: إذن لا شيء من الدينونة الآن علي الذين هم في المسيح يسوع, السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. وهذا ما نريد أن نسلك فيه في الصوم وفي كل حياتنا.
ويتابع الرسول شرحه, فيقول: فإن الذين هم حسب الجسد, فيما للجسد يهتمون. ولكن الذين هم حسب الروح, فيما للروح يهتمون (رو8:5).
فهل أنت تهتم بما للروح أو بما للجسد؟
هل يهمك نموك الروحي, أم رفاهية جسدك؟ هل تهمك صحتك الروحية, أم كل اهتمامك في صحة الجسد؟ لاشك أنك إن اهتممت بصحة الروح, فسيمنحك الرب صحة الجسد أيضا في فترة الصوم كما شرحنا قبلا.
ولكن الخطورة في الاهتمام بالجسد هي تلك العبارات الصعبة:
لأن اهتمام الجسد هو موت, لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله (رو8:6, 7).
من يستطيع أن يحتمل هذا الكلام, ويظل سالكا حسب الجسد؟!
هوذا الرسول يقول أيضا: فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله (رو8:8). فإذن أيها الإخوة نحن مدينون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد.
لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون.
أما إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون (رو8:12, 13). حسب قول الرسول هذا, فنحن في الصوم لا نميت الجسد, إنما نميت أعمال الجسد, نميتها بالروح لنحيا. نحن لا نعذب الجسد, إنما لا نسلك حسب الجسد.. لا نعطي للجسد شهوات ورغبات, إنما نعطيه تساميا, وارتفاعا عن المادة, وتسليم ذاته للروح. لأن الرسول يقول: ولكن اهتمام الجسد هو حياة وسلام (رو8:6).
هذ هو الصوم, لذلك أمام عبارات الرسول نسأل:
هل أنت في الصوم تهتم بما للروح؟
هذا ما نود أن نخصص له الفصول المقبلة, لكي يكون صومنا روحانيا ومقبولا أمام الله. ولكي لا نركز اهتمامنا في الجانب الجسدي من الصوم, ونغفل العمل الروحي, ولكي نفهم الصوم بطريقة روحية, ويكون لنا فيه منهج روحي لنفعنا..
وإن كان الصوم ليس هو مجرد جوع للجسد, إنما هو بالأحري غذاء للروح, فلنبحث عن أغذية الروح ما هي؟ وهل ننالها أثناء الصوم أم لا؟
قال الرب علي لسان يوئيل النبي: قدسوا صوما, نادوا باعتكاف (يوئيل1:14, 2:15). فما معني تقديسنا للصوم؟ وكيف يكون؟
معني عبارة قدسوا صوما:
كلمة تقديس كانت في أصلها اليوناني تعني التخصيص.
فلما قال الرب لموسي: قدس لي كل بكر, كل فاتح رحم.. إنه لي (خر13:2). كان يعني خصص لي هؤلاء الأبكار, فلا يصومون لغرض آخر: أبكار الناس كانوا يتفرغون لخدمة الرب قبل اختيار هارون وأولاده, وأبكار البهائم كانت تقدم ذبائح..
والثياب المقدسة هي المخصصة للرب لخدمة الكهنوت. وفي هذا قال الرب لموسي النبي: فيصنعون ثيابا مقدسة لهارون أخيك ولبنيه. ليكهن لي (خر28:5).
أواني المذبح هي أوان مقدسة للرب, لأنها مخصصة لخدمته, لا يمكن أن تستخدم في غرض آخر. وتقديس بيت للرب معناها تخصيص بيت للرب, فلا يمكن أن يستخدم في أي غرض آخر سوي عبادة الرب بيتي بيت الصلاة يدعي (مت21:13).
ولعل البعض يسأل: ما معني قول الرب عن تلاميذه: من أجلهم أقدس أنا ذاتي.. (يو17:19)؟ معناها أخصص ذاتي لأجلهم, أي لأجل الكنيسة, لأني جئت لأفدي هؤلاء..
وبهذه تكون المقدسات هي المخصصات للرب.
أي أنها أشياء للرب وحده وليست لغيره, هي مخصصة للرب, مثل البكور مثلا. وفي هذا يقول الرب علي لسان حزقيال النبي: هناك أطلب تقدماتكم وباكورات جزاكم مع جميع مقدساتكم (حز20:40). ويقول عن بكور كل شجرة مثمرة: وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسا لتمجيد الرب (لا19:24) أي يكون ثمرها مخصصا للرب, يعطي لكهنة الرب (حز44:30).
والأموال التي تدخل إلي خزانة الرب في الهيكل, قيل عنها: تكون قدسا للرب, وتدخل في خزانة الرب (يش6:19). أي تخصص للرب.
وبنفس المعني كان تقديس الأيام أي تكون مخصصة للرب.
فعبارة أذكر يوم السب لتقدسه (خر20:8), أي تخصص هذا اليوم للرب لا تعمل فيه عملا ما إنه للرب. وبنفس المعني تقديس كل مواسم الرب, كل أعياده. تقام فيها محافل مقدسة. وتخصص تلك الأيام للرب. لا يعمل فيها أي عمل (لا23:3, 7, 8, 21, 25, 31, 36).
وهكذا تقديس الصوم معناه تخصيصه للرب.
تكون أيام الصوم مقدسة, أي مخصصة للرب. هي أيام ليست من نصيب العالم, ولكنها نصيب الرب, قدس للرب.
ولهذا وضح الوحي الإلهي هذا المعني بقول: قدسوا صوما, نادوا باعتكاف. لأن الاعتكاف يليق بتقديس الصوم للرب أي بتخصيصه له.
ولكن ماذا تستطيع أن تفعل, إن لم يكن بإمكانك أن تخصص كل الوقت للرب؟ وإن لم تستطع أن تعتكف بسبب أعمالك الرسمية.
اعتكف ما تستطيعه من الوقت لكي تتفرغ للرب. وإن ضاق وقتك علي الرغك منك, فهناك معني آخر للتخصيص.
علي الأقل: خصص هدف الصوم للرب.
وهكذا يكون صوما مقدسا, أي مخصصا للرب في هدفه, وفي سلوكه. وبهذا ندخل في المعني المتداول لكلمة مقدس, أي طاهر, لأنه للرب.
فهل هدف صومك هو الرب.
ما هو هدف صومك؟
لماذا نصوم؟ ما هو هدفنا من الصوم؟ لأنه بناء علي هدف الإنسان تتحدد وسيلته, وأيضا بناء علي الهدف تكون النتيجة.
هل نحن نصوم: لمجرد أن الطقس هكذا؟
لمجرد أنه ورد في القطمارس, أو التقويم (النتيجة), أن الصوم قد بدأ, أو قد أعلنت الكنيسة هذا الأمر؟ إذن فالعامل القلبي الجواني غير متكامل.. طبعا طاعة الكنيسة أمر لازم, وطاعة الوصية أمر لازم. ولكننا حينما نطيع الوصية, ينبغي أن نطيعها في روحانية وليس في سطحية.. وإن كانت الكنيسة قد رتبت لنا هذا الصوم, فقد رتبته من أجل العمل الروحي الذي فيه. فما هو هذا العمق الروحي, وما هدفنا من الصوم؟
هل هدفنا هو مجرد حرمانا لجسد وإذلاله؟
في الواقع أن حرمان الجسد ليس فضيلة في ذاته, إنما هو مجرد وسيلة لفضيلة, وهي أن تأخذ الروح مجالها. فهل نقتصر علي الوسيلة, أم ندخل في الهدف منها وهو إعطاء الروح مجالها؟..
ما أكثر الأهداف الخاطئة التي تقف أمام الإنسان في صومه!