ودعنا من بضعة أيام عاما مليئا بالأحزان.. مفعما بالمشاعر والمشاهد القاسية ونستقبل عاما جديدا رغم كل شيء نحمل شارات الأمل فوق جباهنا رغم ما يكتسي القلب من أسي ويغيم العيون بالدموع المتدفقة أو بتلك الدموع المتحجرة.
وها نحن نخطو مثل طفل قلق يخشي من خطوته القادمة أن تسقطه مجددا لكنه ببراءة وشغف بالمغامرة يخطو ويخطو فليس بوسعه غير ذلك ولا يجب أن يكون غير ذلك.
كانت الحرب الوحشية علي أهلنا في غزة بكل ما احتوت من بشاعة ومثلت وصمة علي جبين عار الإنسانية جميعها ونقطة سوداء في ثوب الجماعة الدولية الملطخ بدماء الأبرياء وتأكيد لفشل مؤسساتها المتواصل في حماية الأمن والسلم الدوليين والكيل بمكيالين والتمييز بين حياة إنسان وحياة آخر.
هذا الواقع القاسي الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية المحتلة -في آخر وأسوأ احتلال عرفه الإنسان في عصرنا الحديث- إنما يعبر عن المحنة التي تمر بها البشرية بقيادة سلطة النموذج الغربي الذي تسيطر عليه قوي رأسمالية ذات وجه دموي ويمين عنصري لا يعرف سوي رفض الآخر واستباحته.
وعلي الرغم من الرفض المتصاعد من جانب الشعوب الغربية وعدد كبير من خبرائها ومفكريها لتلك الممارسات ومن بينهم البروفيسور مايكل سباغات المتخصص في دراسة أعداد القتلي في الصراعات حول العالم مثل الحروب السابقة علي غزة, وحرب العراق عام 2003, والصراع المدني في كولومبيا, وحروب جمهورية الكونغو الديمقراطية للتأكيد بأن وتيرة القتل في هذه الحرب كانت مرتفعة بشكل استثنائي ويضيف أن ضمن سلسلة حروب غزة الممتدة منذ عام 2008, تعتبر الحرب الحالية غير مسبوقة سواء من حيث عدد القتلي أو من حيث القتل العشوائي.
ووفقا للمصادر الفلسطينية والأممية فإن حصيلة الضحايا ارتفعت إلي 20ألفا و258شهيدا نصفهم علي الأقل من النساء والأطفال وبحسبة بسيطة فإن متوسط من استشهدوا خلال تلك الحرب حوالي 300 شهيد كل يوم أما إجمالي عدد الجرحي فقد وصل إلي 53ألفا و 688جريحا منذ بدء العدوان علي غزة في 7أكتوبر وحتي كتابة هذه السطور.
جاءت محنة أهالينا في غزة لتزيد من أوجاع الإنسانية في العقود الأخيرة والتي لم تعرفها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) والتي ترتب عليها بلورة نظام عالمي مؤسسي تمثل في إنشاء الأمم المتحدة كبديل عن عصبة الأمم التي تأسست عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919, الذي أنهي الحرب العالمية الأولي كانت هذه المنظمة سلفا للأمم المتحدة, وهي أول منظمة أمن دولية هدفت إلي الحفاظ علي السلام العالمي. وصل عدد الدول المنتمية لهذه المنظمة إلي 58 دولة في أقصاه وجاءت منظمة الأمم المتحدة بكل مؤسساتها بديلا لفشل عصبة الأمم كما أعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية حالة من التحرر الوطني شملت عددا كبيرا من الدول المحتلة وكانت مصر من بينها حيث شهدت عام 1952 قيام ثورة يوليو والتي قادت حركات التحرر في البلدان العربية والأفريقية.
حدث ذلك بعد سنوات قليلة من حرب 1949 والتي تمكنت خلالها العصابات الصهيونية وبدعم بريطاني بشكل خاص وغربي بشكل عام من السيطرة علي مساحات من الأراضي الفلسطينية وأعلنت فيها قيام دولة إسرائيل بعد أن قرر الغرب زرع هذا الكيان في جسد الأمة العربية ويظل الكيان يتمدد ويعزز من قوته حتي كاد أن يلتهم كامل الأراضي الفلسطينية وأجزاء من أراض عربية مجاورة تحت حماية بلا حدود ودعم مطلق من جانب قوي الاستعمار القديم.
جاءت المشاهد الوحشية التي تناقلتها وسائل الإعلام لتكشف عن وجه عنصري بغيض ووحشية تجاوزت الحدود حيث يمارس العدو القتل بكل أشكاله وأبشع صوره وسط تواطؤ عالمي وسلبية أممية واضحة.
جاءت المشاهد ولم يكن العالم قد تخلص بعد من أزمات وأوجاع جائحة كوفيد-19 وما تلاها من متحورات وما نتج عنها من أزمات اقتصادية واجتماعية ونفسية خلقت حالة إنسانية جديدة في الرؤي والتصورات للعالم وتقديرات مغايرة للمستقبل.
جاءت مشاهد الإبادة الجماعية نهاية لعام مليء بالكوارث الطبيعية في تركيا والمغرب وشرق آسيا وأمريكا الجنوبية والتي يؤكد الخبراء أنها مرشحة للتزايد بسبب التغير المناخي الذي تشهده الكرة الأرضية جراء العبث بها من جانب الدول الصناعية الكبري وارتفاع معدلات التلوث وعجز العالم علي مواجهة ذلك التدهور المتسارع.
نستقبل عاما جديدا ونحن نحمل أحلامنا له في عالم سعيد علي عكس ما بشرنا به أمل دنقل حين قال لا تحلموا بعالم سعيد.
نتمسك بالأمل في حياة أفضل نستحقها وواقع أروع يليق بنا وبأبنائنا.. ونرفع شعارنا مقولة محمود درويش: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.
نتمسك بالأمل في أن نري حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولتهم المستقلة علي كامل أراضيهم وعاصمتها القدس وقد صار واقعا..
نتمسك بالأمل في إقامة صلوات عيد الميلاد المجيد في كنيسة المهد ببيت لحم -مهد السيد المسيح- وإقامة شعائر الصلاة بأمان في حرم المسجد الأقصي.
نتمسك بالأمل في عالم حر يتساوي فيه البشر ولا نفرق بين دمهم بسبب لونهم أو عقائدهم.. وتعلو قيمة الإنسان في كل زمان ومكان.
نتمسك بالأمل في عام قادم ونسعي لأن تشرق فيه شمس جديدة علي نظام عالمي جديد أراه يتبلور يوما بعد يوم فلم يعد استمرار هذا الوضع القائم ممكنا لأنه أصبح غير قادر علي حماية الإنسان والدفاع عنه ضد أطماع ووحشية بعض الأطراف.
بالطبع في ذلك العالم الجديد سوف يصاغ عبر صراعات قد تكون حادة وتجاذبات قوية بين الأطراف القائمة لكنه في النهاية سيكون حتميا بلا شك لأنه حق وليست مجرد أحلام طوباوية.
سنظل نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا..
كل سنة وأنتم طيبون.. سنة جيدة أسعد وأجمل..
وعيد ميلاد مجيد سعيد