كنت من بين الذين تلقوا بسعادة كبيرة انطلاق أول قناة وثائقية مصرية في فيراير من العام الجاري لما تمثله من حلم قديم تأخر تحقيقه كثيرا وسبقتنا إليه عدد من المؤسسات الإعلامية في دول مجاورة مما تسبب في أن تصبح مصر الرائدة ليست كذلك في هذا السياق المهم.
ويدرك صناع الإعلام المعاصر مدي أهمية القنوات الوثائقية لما تعنية من الحفاظ علي ذاكرة الوطن عبر الوسائط الحديثة التي باتت ضرورية لكل من يبحث عن حماية ذاكرته من عبث الأيام وتضارب المصالح وتناقضات السياسة.
وكان الأمل ومازال في أن تتمكن القناة الوليدة من شق طريقها نحو نفوذ متزايد ومنافسة واجبة مكانة متميزة بين مثيلاتها من القنوات العربية وغير العربية فمصر دولة محورية ومؤثرة وتملك رصيدا هائلا سواء علي مستوي تاريخها السياسي علي مستوي الدوائر الثلاث الشهيرة العربية والأفريقية والمتوسطية إضافة إلي امتلاكها لتاريخ عريق وحضارة استثنائية تتجاوز ما يمتلكه العالم من ميراث حضاري.
كما أن مصر بين دول المنطقة تمثل الدولة الأكثر امتلاكا للقوي الناعمة بكل مكوناتها وتعتبر مرجعا رئيسا في مختلف الفنون والآداب كل ذلك وغيره يعزز أهمية أن تمتلك قناة وثائقية تتوفر لها كل عوامل ومقومات إذا أضفنا إلي كل ما سبق قدرا جيدا من حرية التعبير ومساحة أكبر وأرحب لصناع المحتوي الوثائقي وتوفر المتطلبات الفنية اللازمة لتقديم أعمال جذابة ذات تقنيات عالية.
تابعت بقدر الإمكان معظم ما قدمته الوثائقية المصرية منذ ولادتها -أقصد بالأساس- الأعمال التي أنتجتها القناة عن رموز مصر وتاريخها مثل ما قدمته بداية من فيلم أدهم الشرقاوي وأعمالها عن ثورة 1919 وسعد زغلول وتأميم القناة وسيد قطب ونجيب الريحاني وسيد قطب وتنظيم الإخوان وغيرهم من الأعمال إلي أن تابعت أخيرا فيلما وثائقيا عن الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة الذي جاء علي جزءين وحاول صناع العمل أن يقدموا رؤية لتجربة وأعمال ومسيرة الكاتب الكبير الذي ولد في محافظة كفر الشيخ في 27 يوليو عام 1941 وكانت مصر في تلك اللحظة تنتظر بشغف وقلق انتهاء الحرب العالمية الثانية لتنفذ بريطانيا وعدها بمنح مصر استقلالها وكان الاستقطاب قد بلغ ذروته بين فريق يدعم بريطانيا العظمي أملا في الاستقلال التام وفريق آخر يعلن دعمه للزعيم الألماني أدولف هتلر أو كما أطلق عليه العوام في مصر الحاج محمد هتلر وفي تلك المرحلة المبكرة من حياة الطفل أسامة أنور عكاشة كان نجيب محفوظ هو جبرتي الرواية الذي يرصد حياة المصريين وتطورها ويشرح بقلمه كل التفاصيل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكان الصغير أسامة مولعا بالأستاذ الكبير.
فقد حملت أعمال عكاشة مشروعا ثقافيا مستنيرا وانحيازا واضحا للغالبية العظمي من المصريين البسطاء وانشغل خلال مسيرته بطرح السؤال الملغز ويقترب من المنطقة الشائكة التي تتعلق بالهوية المصرية.. من نحن؟ وكان هذا السؤال حاضرا في معظم أعماله أرابيسك والراية البيضا وزيزينيا وغيرها من الأعمال.
وجاء الفيلم الوثائقي الذي رفع شعار ظل حاضرا خلال مدة العمل وهو ما جاء علي لسان بشر عامر عبدالجواد في زيزينيا قائلا: أنا السؤال والجواب فقد جاء متناولا دراما عكاشة ونجح بقدر كبير في رصد وتحليل مراحله الإبداعية والكشف عن انحيازاته الفكرية ورؤاه السياسية التي عبر عنها فيما كتب سواء عبر الرواية أو الدراما أو حتي المقالات والحوارات الصحفية.
جاء اختيار الضيوف موفقا في معظمه إلا أنني كنت أتمني أن أري عددا أكبر من المخرجين الذين تعاون معهم بالإضافة للمخرج الكبير جمال عبدالحميد أو المخرج رؤوف عبدالعزيز الذي قدم له مؤخرا فيلم الباب الأخضر بعد رحيل عكاشة بسنوات وكنت أتمني أن أري عددا من الفنيين الذين شرفوا بالعمل معه وكنت أتمني أيضا أن أري مسقط رأسه كفر الشيخ التي تمثل مرحلة التكوين ووعي البدايات.
كنت أبحث عن عكاشة الذي لا نعرفه رغم ما قدمته ابنته الإعلامية نسرين من جانب مهم في تلك الزاوية إلا أني أعتقد أن هناك الكثير يحتاج إلي إلقاء الضوء عليه في حياة ومسيرة ومعارك الكاتب الكبير.
نجح وثائقي عكاشة في طرح رؤاه الفكرية وتأثيره العظيم والرائد في الدراما العربية واستطاع ضيوف العمل أن يقدموا تحليلا جيدا أشبه إلي التحقيقات الصحفية المميزة حول الكاتب وأعماله والدراما العكاشية وملامحها.
جاء الإعداد الدقيق والتفاصيل الذكية التي رصدتها الصحفية الموهوبة نسمة تليمة والتي كانت قد تألقت في فيلم عن الكاتب الراحل وحيد حامد والتي تجيد البحث في عن كل ما هو أصيل وثمين في عالم الإبداع.
وصاغ التعليق الصحفي المبدع بلال مؤمن والذي قدم باقتدار وحرفية ولغة عميقة لكنها بسيطة تصل للمشاهد دون عناء أو التباس في الفكر فكان صادقا معبرا بحب عن كاتب بحجم عكاشة.
كما جاء السيناريو والإخراج المميز لـإبراهيم السيد, كل التحية لفريق العمل وصناع الفيلم وأصحاب المبادرة في توثيق تجارب رموز مصر في مختلف المجالات فلم يكن عكاشة مجرد كاتب يقدم حكايات درامية للتسلية والمتعة فقط فهو صاحب الرؤية والفيلسوف والمصلح الاجتماعي والواعظ والمحلل وغير ذلك الكثير لكنه قبل هذا وبعده هو تلميذ مخلص في مدرسة نجيب محفوظ خاصة في القدرة علي بناء الشخصيات والتحليل والرصد التاريخي.
هذا ما ساهم بقدر كبير في أن يكون عكاشة هو رائد لفن الأدب التلفزيوني علي حد وصف الناقد الراحل عبدالقادر القط.