بدون شك فإن الحوار بكل أشكاله وتنويعاته هو أحد أهم وسائل للتواصل بين البشر وهو أحد عوامل التمايز بين الإنسان المتحضر ابن عالمنا الحديث وبين عصور ما قبل التاريخ حين كانت القوة هي اللغة الوحيدة التي عرفها.
ومن أسس وقواعد أي حوار أن يكون كل طرف من أطرافه يمتلك بنفس درجة قدرته علي الحديث قدرة علي السماع والإنصات للآخر بروح قابلة للاقتناع وقادرة علي التلقي الإيجابي الذي لا يجب أن يتوقف عند حدود الأذن بل يمتد إلي العقل والوجدان ليصبح الحوار فاعلا والتواصل مفيدا والعصف الذهني جادا.
نؤكد ذلك ونحن نتابع بحرص واهتمام فعاليات الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية في شهر رمضان قبل الماضي (2022) وبعد عام من الانتظار -والتحضيرات- انطلق بالفعل الحوار بجلسة افتتاحية ساهمت كلمات عدد من متحدثيها في رفع سقف الآمال حول مساحة حرية أكبر قد تشهدها أروقة الحوار وهذا ما ينعكس علي المناخ العام الذي يعاني منذ سنوات من تراجع ملحوظ وانخفاض لسقف الحريات العامة هذا ما دفع السيد عمرو موسي -علي سبيل المثال- أن يشدد علي هذا الملف الشائك بالإضافة إلي إشارته المهمة حول مسألة الحبس الاحتياطي وضرورة غلق هذا الملف المسيء إلي الأبد.
وضمن أجندة الحوار الوطني فإن ملف الثقافة والحفاظ علي الهوية يحتل مكانة -نظريا- مهمة وتم تخصيص محور كامل تحت هذا العنوان لجنة الثقافة والهوية الوطنية وتم تقسمها إلي عدد من العناوين الفرعية منها المؤسسات والسياسات الثقافية نحو فعالية وعدالة وتضمنت عناوين منها مؤسسات الدولة ومؤسسات خاصة والمجتمع المدني والصناعات الثقافية والدراما والسينما والمسرح والنشر والترجمة والموسيقي.
هذه عناوين لا بأس بها لكن العنوان الأهم والضروري لنجاح التعامل مع كل تلك الملفات هو حرية الرأي والتعبير وأعتقد أن كل المنشغلين بهذا الشأن والحريصين علي وضع مصر واستعادة نفوذها الثقافي والفني وعودة الروح لقوتها الناعمة في ظل منافسات قوية تحيط بنا في منطقتنا العربية بلغ بعض الأحيان حد الاستهداف والسعي للتقزيم والتغول علي مساحة صنعتها مصر عبر قرون بجهود مفكريها وفنانيها ومثقفيها وشعبها بكل مكوناته
لكن استعادة تلك المكانة وهذا الزخم الذي تراجع هو رهن لانفتاح حقيقي وفعلي وبعيد عن الشكلانية وعدم الاكتفاء بشعارات فقط.. فلا إبداع دون حرية ولا نهضة ثقافية دون فتح المجال العام ولا تطور فني دون الحق في النقد والقدرة علي التجريب والمغامرة.. تلك هي الفريضة الغائبة وهذه هي روح الفنون بلا جدال.
يري البعض أن الخطوة في حد ذاتها مباركة ولا يجب إفسادها بمناقشة قد تفسدها من قبيل الضوابط والضمانات والشروط وما يشبه ذلك وان الحوار في حد ذاته هو غاية تستحق التضحية من أجلها والتجاوز عن كل ما فات لأن به ما يبرره من وجهة نظرهم وأن الدعوة للحوار جاءت نتيجة إيمان حقيقي من السلطة بضرورته وليس لأي اعتبارات أخري مثل الأزمة الاقتصادية أو الوضع الدولي المعقد والمتوتر.
في حين يري البعض أنها مجرد محاولة لا ستعاب استياء مكتوم حتي الآن وتفريغ شحنات من الغضب قبل أن تمثل خطورة إذا تحولت إلي طاقة سلبية أو محرك لمزيد من الغضب وهؤلاء يحتاجون إلي أن يتلمسوا خطوات وإجراءات فعلية تبدد مخاوفهم المشروعة.
بينما يبدو الأمر لدي البعض الآخر فرصة يجب أن تستثمرها قوي المجتمع ومكوناته المدنية بكل تنويعاته خاصة الذين عانوا من التغيب والإقصاء وغلق الأبواب تجاه أفكارهم ورؤاهم وإبداعهم, وعليه فإن اللحظة لا تحتمل التلكؤ في التفاعل السريع والجاد مع معطيات الحوار الوطني والعمل بكل جهد من أجل تحقيق مكاسب للثقافة والفن والوطن بأكمله.. ومن منطلق ما لا يدرك كله لا يترك كله فإن المصلحة الوطنية تفرض علي الجميع الإمساك بهذا الخطوة والبناء عليها شريطة أن تتوفر عوامل النجاح حتي لا يتحول الأمر إلي مجرد تفريغ للطاقة واستهلاك للقوة وجري في المحل.. وعوامل النجاح لا خلاف عليها ولعل من أهمها أن تتحقق بعض المطالب التي يجتمع عليها كل الأطراف ومن بينها توفير مناخ حر يسمح للجميع بالتعبير عن رأيه عبر وسائل إعلام الشعب الدولة وضرورة أن تكون كافة فعاليات وأنشطة وجلسات الحوار علنية ولا نكرر كارثة حجم جلسات البرلمان عن المواطن ذلك الذي أضر بالبرلمان وصورة مصر التي نسعي أن تكون دولة مدنية ديمقراطية حديثة فعلا وليس قولا.
دولة مدنية حديثة لا نري فيها أحزابا أنشئت علي أساس ديني ولا تتضمن قوانين للحسبة أومناخا ينضح بكراهية الآخر الديني والعرقي والنوعي..