في علم 2005 قررت وزارة الثقافة المصرية تحويل المبني الأثري العريق بيت الست وسيلة الذي أنشئ عام 1663 ميلادي إلي ملتقي للشعراء ومنذ ذلك الحين تولي إدارته عدد كبير من المثقفين والمبدعين.
لكن المؤكد أن بيت الشعر المصري خلال العام الأخير قد نجحت إدارته في أن يصبح حالة ثقافية لها كل ذلك الحضور والتأثير والبريق وأصبح مركزا ثقافيا شاملا ومصدرا للاستنارة وملتقي لكل أصحاب الفكر وصناع الفن.
منذ عام تقريبا تولي الشاعر سامح محجوب مسئولية إدارة بيت الست وسيلة بيت الشعر المصري وجاء ذلك التكليف في وقت تزايد النفوذ الثقافي لعدد من بيوت الشعر ذات الدعم الخارجي -العربي- في إطار دور ثقافي تسعي عدد من الدول العربية الشقيقة لزيادته وترسيخه خاصة في مصر, وهذا بالطبع يستند إلي دعم مالي كبير جدا وربما أكبر من قدرات كل المؤسسات المصرية الرسمية مما يجعله قبلة لدي بعض الكتاب, ولفتت تلك التجربة في إدارة بيت الشعر إلي عدد من الحقائق من بينها:
أولا: إن الإدارة الجيدة قادرة علي تجاوز كافة العقبات -خاصة المالية- والانطلاق نحو تحقيق نجاح مستمر ومتزايد..
ثانيا: إن المبدع إذا امتلك رؤية المثقف وملكات الإدارة وروح التجرد والإخلاص فإنه يمكنه خلق تجربة تليق به وبالإبداع المصري العريق.
ثالثا: الأهم من تحقيق النجاح وصناعة التميز هو أن يجري ذلك في إطار مشروع ثقافي مصري جامع يستوعب كل الخطوات الإيجابية أما إذا غاب المشروع الثقافي الوطني فإن كل المحاولات تظل فردية للأسف تحقق نجاحا لكنها تكون فريسة لمن ينقض عليها ويعرقل استمرارها وتطورها لحسابات شخصية أو خصومات فكرية أو عوامل إدارية أو أي سبب آخر إلا الصالح العام طبعا.
ولعل الحقائق التي كشفت عنها تجربة بيت الشعر المصري كثيرة ومؤلمة ولكن.. لماذا أراها هكذا؟
ومن منطلق الانحياز الثابت والوحيد للثقافة المصرية وحاضرها ومستقبلها, تلك الثقافة التي بنيت علي أعمدة الاستنارة وحرية التعبير والتنوع الحضاري وتجلت في أروع الفنون وأرقي الآداب وعطاء فكري ملهم.
فإن الإجابة هي أن التجربة التي شهدها بيت الشعر خلال عام مضي قد حققت عدة نجاحات كبيرة منها أنها تمكنت من استعادة الجمهور إلي ساحات الشعر في ظل واقع ندركه جميعا حيث تخلو قاعات الشعر -في معظمها- سوي من الشعراء وبعض أصدقائهم في أفضل الأحوال..
كما قدمت نموذجا مميزا في إدارة المؤسسات الأدبية الرسمية وعملت علي تقديم المكونات الثقافية بمختلف تنويعاتها وهذا كان واضحا من خلال الفعاليات التي تجاوزت ثلاثين فعالية أدبية وفكرية ومناقشة عشرات الكتب والاحتفاء برموز الثقافة المصرية والعربية مثل طه حسين ونازك الملائكة والشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد رامي وغيرهم من رموز ورواد الأدب والفكر والفن.
ومن خلال صالون الشاعر الكبير ‘أحمد عبدالمعطي حجازي فقد أثار البيت عددا من القضايا الثقافية والأدبية والإشكاليات الفكرية مثلا ماذا قدمت قصيدة النثر وكيف أصبح الزجل شعرا والعامية الجديدة وشعر المرأة وغيرها من القضايا الفكرية والأدبية والثقافية والفنية..
لقد حلق بيت الست وسيلة أبعد من كونه بيتا للشعر لأن الشعر كأحد أشكال الفن بالطبع يحتاج إلي متلق واع وجمهور تواق للجديد ولأن الشاعر هو أحد أعضاء الجماعة الثقافية فالتأكيد يكون معنيا بالثقافة بمعناها الشامل والفكر والفن لذلك اتسعت رؤية إدارة بيت الست سنية الشعر المصري وتجاوزت حدود تنظيم أمسيات شعرية يلتقي فيها عدد من الشعراء وقليل من الجمهور ويلقي كل منهم قصيدته أو يناقش المشاركون ديوانا شعريا أو تجربة إبداعية -هذا هو النموذج التقليدي لبيوت الشعر- لكن ما حدث من محجوب وزملائه كان متجاوزا لذلك السياق الضيق والتقليدي ونجحت التجربة في لفت الأنظار إلي ذلك الموقع التاريخي العريق الذي يقع بالقرب من بيت زينب خاتون بمصر القديمة.
وشهدت الفعاليات إقبالا جماهيريا غير مسبوق وثقته الصور والمقاطع المصورة وسجلته عدسات الصحف والبرامج التلفزيونية واستضاف كل الأجيال الأدبية والفكرية وتحولت أمسيات بيت الشعر إلي كرنفال متكامل يمتزج فيه الشعر مع الموسيقي والغناء وتتعانق فيه الفلسفة مع روح التاريخ وتتصدي أفكار التنوير وقيمه لكل ما هو ظلامي.
إن التجربة التي شهدها بيت الشعر المصري كنموذج في العمل الثقافي الذي يجمع بين قواعد وآليات المؤسسة الرسمية وبين أدوات وخيال المبدع الحر والمثقف المستقل وأظنه نموذجا جيدا وصالحا للتعميم.. هي تجربة تستحق الاحتفاء بها ودعمها بدلا من محاصرتها.
وأتمني ألا تكون ظنون بعض مثقفينا صحيحة بشأن تغيير مسئولي البيت الذين تمكنوا من تحقيق نجاح كبير لفت الأنظار إلي أن في مصر بيتا للشعر.
خالص التقدير والمحبة لتجربة سامح محجوب وزملائه, وكل التوفيق للإدارة الجديدة التي تولاها الشاعر عمر شهريار ونتمني أن يحافظ علي ما تحقق من مكاسب ويبني عليه واضعا بصمته في تقديم روح جديدة وأفكار خلاقة..
مصر تستحق بيتا للشعر يليق بها ويجمع به كل العرب.