عندما نحتفل بميلاد السيد المسيح فأننا نحتفل بحدث كوني له جوانبه المتعددة سواء كتابيا أو تاريخيا أو جغرافيا أو نبويا أو روحيا أو إنسانيا…إلخ ولكن المهم أن نعرف أن السيد المسيح هو الذي اختار ظروف ميلاده بعكس أي إنسان في العالم, لأن كل منا ولد من عائلة لم يخترها وفي بلد لم يختره وفي زمن لم يختره وفي ظروف اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لم يخترها, لقد كان بإمكان السيد المسيح أن يولد في بلد الفلسفة مثل أثينا أو بلاد السلطة مثل روما, ولكنه اختار فلسطين حيث قرية بسيطة وأناس بسطاء وبيت فقير, كما أنه اختار فتاة فقيرة ليولد منها.
وكان وقت ميلاده متزامنا مع حدث الاكتتابالإحصاء الذي أصدره أغسطس قيصر لكل الإمبراطورية الرومانية(لوقا2-1), وهو بذلك أخذ رقم مواطن أرضي, حيث كثيرا ما قال عن نفسه: إنه ابن الإنسان.
وفي ذات السياق نجد أن السيد المسيح يحمل اسمين لكل منهما دالته القوية في حياة كل من يؤمن به, الاسم الأوليسوع ويعني مخلصا (متي1:21) وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. إنه اسم يشير إلي بداية الخلاص من آثار خطية آدم وحواء, أما الاسم الثاني فهو عمانوئيل (متي1:22) هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا وهذا هو غني ميلاد وتجسد السيد المسيح, إذ صار حبا فينا نحن البشر يسكن فينا ومعنا في محبة فائقة المعرفة.
ولكل ما سبق صار حدث الميلاد حدثا غنيا بكل تفاصيله وأحداثه, من اللافت للنظر أنه حدث مثمر بمعني أن كل شخصياته قدمت شيئا أو علي الأدق ولدت ثمرا مفرحا, فالقديسة مريم العذراء ولدت السيد المسيح وقد اختارها بحسب تعبير الملاك لأنها الممتلئة نعمة(لو1:28) ثم جاءت قرية بيت لحم المغمورة وغير المعروفة والصغري بين جيرانها فقدمت مذودا بسيطا للحيوانات ليكون مكان السيد المسيح ويصير الأشهر عالميا, وكثيرا ما نجد في أيقونات الميلاد صورة المذود به حيوانات أهمها الثور والحمار كما تقول النبوة في(إشعياء1:3)الثور يعرف قانيه, والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف شعبي لا يفهم, ثم يأتي الرعاة الذين كانوا في البادية يرعون قطعانهم فيقدموا شغفا وفرحا إذ صاروا أول من علم بميلاد المسيح, ومن بلاد بعيدة يأتي المجوس هؤلاء الحكماء والعلماء والذين تتبعوا نجما في المشرق حتي وصلوا إلي بيت لحم وقدموا هداياهم ذهبا ولبانا ومرا(مت2:11) حتي الملائكة في السماء قدموا تسابيح الفرح والبهجة وأنشودتهم الخالدة المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة, كل هؤلاء قدموا شيئا وأثمروا بحياتهم وبعطاياهم علي تنوع ما قدموه.
والسؤال الآن عزيز القارئ هل أنت ولود في حياتك؟ هل أنت مثمر في أيام عمرك؟ ماذا قدمت في ماضيك؟ وماذا تقدم في حاضرك؟ وماذا ستقدم في مستقبلك؟
سوف أجيب علي هذه التساؤلات وأستعرض معك كيف تكون ولودا ومثمرا وحياتك غنية ما تقدمه من خلال أمثلة ونماذج:
1- البعض يلد أبناء وبنات علي مستوي الجسد من خلال الزواج المقدس ومن خلال التربية الحكيمة ينشأ أفراد نافعون جدا, فيصير الإنسان مواطنا صالحا بكل ما تعنيه هذه الكلمة, ومفيدا في المجتمع والكنيسة والعالم كله.
فالأب والأم في الأسرة القوية والمستقرة والسعيدة والتي نسميهاكيان الحب تستطيع أن تربي وتعلم ليس علما فقط بل أخلاق ومبادئ وقيم وتستطيع أن تغذي المجتمع والوطن بنماذج منيرة وخادمة تعمل علي إثراء الحياة الاجتماعية والحياة الإنسانية في شتي المجالات.
2- والبعض يلد أبناء وبنات علي المستوي الإنساني خلال التلمذة الأمينة والمستمرة في الخدمة الاجتماعية المتنوعة هؤلاء الذين يقومون بتسليم الخبرة والمهارة إلي تلاميذ لهم سواء في مجالات الصناعة أو الزراعة أو الاقتصاد, وهذا التسليم الأمين والممتد عبر سنوات وسنوات هو الذي يثري حياة البشر ويكون سببا في تقدمهم وتسديد احتياجاتهم علي تنوع أشكالها, وعلي المستوي الروحي والكنسي في مجال التكريس بأنواعه حيث يتتلمذ الإنسان علي أبيه الروحي في تلمذة روحية مستمرة يتسلم فيها الخبرة الروحية والتقوية والتي يمكن أن يفيد بها آخرين وهكذا يلد الإنسان آخرين في سائر المجالات.
3- والبعض يقدم علي مستوي العلوم الاختراعات أو الابتكارات أو الاكتشافات والتي تجعل حياة البشر أكثر سعادة ورفاهية وسلاما كمن يقدم ويكتشف أدوية عديدة تشفي ملايين من البشر مثل ألكسندر فلمنج مكتشف البنسلين. هؤلاء يلدون من عقولهم واجتهاداتهم الجديد والجديد في كل جيل يعملون من أجل صالح الإنسان إنما كان ومازال قطار العلم والعلماء يمضي في تقديم كل ما هو عظيم ومفيد لحياة البشر وعلاج أمراضهم وتسهيل حياتهم ورفعة مستويات حياتهم.
4- والبعض يقدم ويلد مواهب متنوعة في شتي المجالات سواء الأدبية أو الثقافية أو الفنية أو الرياضية, وهذه المواهب تصير نجوما في سماء البشرية ويعتز أي مجتمع أنه قدم مواهب فذة مثلما قدمت مصر طه حسين ونجيب محفوظ في مجال الأدب وغيرهم في مجالات الموسيقي والفن والرياضة وأسماء عديدة لامعة ليس في مصر فقط, وإنما في كل العالم.
5- والبعض يقدم خدمات جليلة للإنسانية لا يمكن أن تنسي ولأن حاجات الإنسان عديدة وخدمة أي إنسان وكل إنسان هي الغاية العظمي لهؤلاء البشر الذي أعطاهم الله هذه الخصوصية في خدمة الآخرين مثل خدام المعاقين وذوي الهمم وخدمة المدمنين وخدمة اليتامي وخدمة المغتربين وخدمة حالات الجنوح بين الفتيان والفتيات وخدمة الأرامل وخدمة المسجونين وخدمة أطفال الشوارع وخدمة الذين ليس لهم أحد أن يخدمهم أو يهتم بهم.
ومن الأمثلة الرائعة في زماننا خدمة البروفيسور مجدي يعقوب في مجال طب القلوب والخدمة المدنية الرائعة التي يقدمها مع فريقه النشيط من خلال سلاسل الأمل والتي أنقذت حياة الآلاف من الصغار والكبار. وغيره كثيرون جدا.
أنه درس الميلاد الأعظم أن تكون ولودا ومثمرا وليس عقيما مجدبا, إنسانيتك تحتاج منك أن تلد وتقدم وتثمر في وسط أسرتك أو كنيستك أو مجتمعك أو وطنك أو عالمك الذي تعيش فيه.
إننا في هذه المناسبة السعيدة وبداية العام الميلادي الجديد نتقدم بخالص التهنئة لجموع شعب مصر العظيم وفي المقدمة سيادة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية وكافة المسئولين ومعاونيه, مصلين أن يحفظ الله بلادنا الحبيبة مصر سالمة آمنة, وأن تتخطي كل الصعاب والأزمات التي سببتها حروب ونزاعات لا طائل من ورائها… ونصلي من أجل سلام العالم خاصة في مناطق الصراع والنزاع وليمنح الله فرحا ونعيما لكل من يعيش أمينا مخلصا لبلاده ووطنه ومجتمعه ودمتم في رعايته السامية.
وكل عام وجميعكم بخير..