يقول الدكتور حسن حنفي ـ مفكر محسوب علي اليسار الإسلامي ـ إن الثقافة الوطنية هي المكون الرئيسي لمزاج أي شعب يستمد منها تصوراته للعالم وبواعثه علي السلوك, تظهر سماتها في الأفراد وفي الشعوب علي حد سواء, في الوعي الفردي والوعي الاجتماعي والتاريخي ومن ثم تبدو الثقافة مفهوم يتجاوز حدود المتعارف عليه من مجرد أنواع من الفنون والآداب ومساحات عل وسائل الإعلام تقدم ما يمكن وصفه بثقافة التسلية أو التوعية علي حد سواء.
فالثقافة مفهوم شامل ومعني يتسع لكل ما يساهم في تشكيل الوعي وصياغة الوجدان ويتحول إلي سلوك يومي لدي الإنسان ولدي المجتمع.
ونحن إذ نتناول قضية الثقافة الوطنية ليس لكونها قادرة علي تغيير نمط التفكير وتهذيب الروح وانضاج العقل بل لأنها دون مبالغة هي قضية وجود حقيقي.. وجود لحماية الهوية والحفاظ علي النسق الحضاري والقيمي للمجتمع.
كل ذلك وغيره ليحيلنا إلي السؤال المكرر والذي نحرص علي تكراره مجددا ولن نمل من طرحه حتي يلتفت إليه صناع القرار. هل لدينا مشروع ثقافي وطني رسمي؟ مشروع تتبناه المؤسسة الثقافية المصرية وتضع أمامها خطوات محددة تستهدف الوصول إليها؟ وأهداف واضحة تسعي إلي تحقيقها؟
الإجابة للأسف بالنفي.. لدينا بالقعل مؤسسة ثقافية عملاقة ومثقفين ومبدعين بدؤجة شديدة التميز والتحقق الفني والفكري.
منذ أن تأسست وزارة الثقافة المصرية وصار لها مشروع حقيقي علي يد الراحل الكبير والمثقف الموسوعي ثروت عكاشة ومن تلك اللحظة التي أدركت الدولة أهمية أن تقدم للمواطن خدمة ثقافية بالتوازي مع خدمات العلاج والسكن والتعليم. منذ تلك اللحظة ونحن نمتلك مؤسسة ثقافية شديدة التوهج ولديها قدرة فاذقة علي النفاذ إلي العقل الجمعي وتشكيل وجدانه والارتقاء بوعيه.
مع حقبة السبعينات بدأت تتخلي رويدا رويدا عن ذلك الدور نتيجة توتر دائم بين سياستها وبين غالبية المثقفين المصريين لكن رغم ذلك ورغم غياب الدعم بشكل كبير.
إلا أن ثنائية خطيرة قد لعبت الدور الأكبر في تهميش الثقافة وصناعها وتراجع الفنون إا من قبضوا علي جمر المسئولية الوطنية والفنية في كافة مجالات الإبداع تلك الثنائية من وجهة نظري هي التأثير الضخم لخطوات الإنفتاح الاقتصادي علي التركيبة المجتمعية والفكرية وتأثر الفنون بتلك الخطوات.
لكن الخطوة الثانية التي مازال تأثيرها قويا حتي الآن وهي قيام الرئيس أنور السادات بالتوافق مع جماعات الإسلام السياسي بغرض مواجهة التيارات اليسارية والناصرية داخل الجامعات المصرية وفي النقابات المهنية لتمتد المواجهة إلي كل أروقة المجتمع وينتهي الأمر باغتيال السادات علي أيدي تلك الجماعات المتشددة.
كما فتحت أبواب الهجرة المصرية نحو بلاد النفط جسرا ملتهبا لغزو الأفكار الوهابية إلي بلاد الفراعنة وهي ما تمكنت مع أفكار متشددة في الداخل للعبث في الوعي الجمعي وهو ما خلق بينه حاضنة للأفكار الإرهابية وساهم في توجه المجتمع نحو التشدد وهو المعروف تاريخيا بوسطيته واعتداله.
لم تواجه الثقافة بما يكفي ذلك التحول لكن مثقفون واجهوا وقدموا الوافر والاجتهادات المستنيرة وتحملوا نتاج ما قاموا به من تكفير وعزلة وبلغ الأمر حد القتل فرج فوده نموذجا.
في أعقاب ثورة 0 يونية بدت الصورة واضحة أمام ملايين المصريين وانكشف أيف الجماعة وأنصارها وكشفت التجربة عن محاولات اختطاف الوطن. وفي تلك اللحظة كان المثقفين في أول الصفوف وخاضوا الحرب ضد الجماعة وتنظيمها بعد أن خاضوها لسنوات ضد أفكارها.
كانت اللحظة مواتية تماما للبد في مشروع ثقافي وطني يطهر العقل من أفكار تركت تنهش في قواه التاريخية ووجدانه المستقر لكنه بعد لم يبدأ.
وفي يناير 2018 ارتفع سقف الطموح وقلنا أنه اختيار موفق بتكليف الفنانة الدكتورة إيناس عبدالدايم ـ لوزارة الثقافة ـ وهي التي خاضت إلي جانب العشرات من المثقفين معركتنا الأولي تمهيدا لثورة 30 يونية.
وتستضيف جامعة القاهرة في العام نفسه المؤتمر السادس للشباب برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي ويكون عنوانه بناء الإنسان المصري وتأتي الثقافة في صدارة جدول أعمال المؤتمر.
وفي العام التالي رعي الرئيس منتدي شباب العالم بشرم الشيخ والذي احتفي بكتاب الأعمدة السبعة للشخصية المصرية للراحل ميلاد حنا.
يزداد التفاول وتمر الأيام ونحن في انتظار تنفيذ توصيات المؤتمر.. لكن حتي الآن لا شئ علي الأرض الثقافية… نفس الأداء وذات الوجوه والسياسات الفوقية والبيانات المكتبية حول أعداد المنشآت الثقافية والأنشطة النوعية وللأسف يصبح هذا هو معياراخيار قيادات الثقافة والتجديد لها أما تأثير الثقافة ونفاذها إلي وعي المجتمع وقدرتها علي تطهير الوجدان من السلعية وتنقية العقل من التشدد والظلامية فهذا ليس معيارا للترقي الوظيفي أو الحفاظ علي المنصب الإداري.
فالدولة المصرية بجيشها وشرطتها تحارب الإرهابيين وتقدم التضحيات لكن من الذي يحارب الإرهاب بأفكاره وسمومه؟… للأسف لا أحد.
وهل استطعنا خلال تلك السنوات منذ ثورة 30 يونية خلق بديل يركز علي قيم الاستنارة والمواطنة وحرية الإبداع؟ أم أننا نعيد إنتاج نفس الشيء الذي تسبب في أزمة تجلت في نمو الجماعات المتشددة ومكنتهم ورؤاهم.. كنا ومازلنا نراهن علي أن يدرك صناع الثقافة قيمة وأهمية وحتمية البدء في مشروع ثقافي وطني حداثي يصل للقرية ويشتبك مع الواقع الفكري الرجعي ويعيد للثقافة المصرية وجهها الشعبي الذي تميزت به. فلن يتغير الوعي العام ونحن لا ندرك تفاصيله وقضاياها وكل شواغله