يضاف أيضا إلي تأثير البيئة في إطفاء الروح:
2ـ تأثير المشاكل والأحداث والاهتمامات:
كل إنسان في الدنيا, حياته معرضة للمشاكل والأحداث. فهل بالضرورة يتعرض تبعا لذلك إلي انطفاء حرارته الروحية؟ كلا بلا شك. إذن أين يكمن الخطر الروحي؟
تتسبب المشاكل في إطفاء الحرارة الروحية, إذا ما استقطبت الإنسان, واستولت علي فكره ومشاعره.
أي أن المشكلة تستحوذ علي كل اهتمامه, بحيث تشغل كل وقته وكل تفكيره وكل إحساساته. وهكذا قد لا يبقي له وقت للصلاة. وإن صلي يسرح فكره في المشكلة!!
وهكذا يطفئ الروح وعمله فيه, لأنه غير متفرغ لأي عمل روحي. وقد استولت المشكلة عليه بالتمام. وربما أسلمته أيضا إلي القلق والاضطراب والحيرة…!
أما الشخص الروحي, فإن المشاكل تعمق صلواته بالأكثر, ولو من أجل حلها. فتزداد حرارته.
هو يطرح الأمر أمام الله, ويتركه له ليحله. وبكل إيمان وبكل حب, يثق أن الله سيحل الإشكالات… وهكذا ينتصر علي المشكلة بروح الصلاة والإيمان, ولا يسمح لها بأن تنتصر عليه… وبقي كما هو, محتفظا بحرارته.
لا يفكر في المشاكل, لأنه واثق أن الله سيعمل عملا…
إذن ليست الخطورة في المشكلة, وإنما في الأسلوب الذي نتعامل به مع المشكلة.
داود النبي كانت تحيط به المشاكل, فيسرع إلي مزماره وإلي عوده, ويسكب نفسه في حرارة أمام الله, حتي في الوقت الذي كثر فيه الذين يحزنونه, وقالوا له: ليس له خلاص بإلهه!! مز 3… داود لم يفقد حرارته في وقت الشدة, لأنه لم يكن ينحصر فيها, إنما كان يلجأ إلي أحكام الله وشهاداته وناموسه, يتأمل فيهم. فترتاح نفسه, وتزداد حرارته. هوذا يقول:
ضيق وشدة أدركاني ووصاياك هي درسي (مز 119).
ويقول في نفس هذا المزمور الكبير كادوا يفنونني علي الأرض, أما أنا فلم أترك وصاياك, اذكر لعبدك كلامك الذي جعلتني عليه أتكل. هذا الذي عزاني في مذلتي, جلس الرؤساء وتقاولوا علي. أما عبدك فكان يهتم بحقوقك, لأن شهاداتك هي درسي… بقي في تأملاته, ولم يهتم بما يتقاول به الرؤساء عليه… وفي شهادات الرب وفي كلماته, كان يجد العزاء. وتزداد روحه حرارة وحبا…
ليت المشاكل تدفعنا إلي الصلاة بكل حرارتها, ولا تدفعنا إلي التفكير والقلق…
القديسون كانوا محاطين بمشاكل. لكنهم كانوا محاطين بروح الله أيضا, هو يحلها لهم ويعزيهم, لأنه هو الروح المعزي يو 14: 26.
إن الشيطان إذا رأي أن المشاكل تربكنا وتفقدنا حرارتنا الروحية, فلا مانع عنده من أن يقدم لنا كل حين مشكلة جديدة ننشغل بها ونتفرغ لها!! ولكنه لا يفعل ذلك إذا وجد أن المشاكل تقودنا إلي الصلاة…
3ـ مما يطفئ الروح أيضا, كثير من كلام الناس:
وبخاصة الأحادث غير الروحية, والفكاهات العابثة, وكلام اللهو, ومسك سيرة الناس, وما أشبه ذلك…
كل هذه الأنواع من الكلام السائب غير المنضبط, التي تتيه الإنسان عن أبديته, وتشتت فكره, وتبرد حرارته, وتساعده علي الاشتراك في الخطأ, وتقلل حرصه وتدقيقه.
وكما قال الكتاب:
كثرة الكلام لا تخلو من معصية (أم 10: 19).
ولهذا قال أحد الآباء في بستان الرهبان: إذا أنت مشيت مع إنسان صالح من قلايتك إلي الكنيسة, يقدمك عشر سنوات. وإذا مشيت مع إنسان منحل يؤخرك خمسين سنة!
ما أكثر ما يتحدث معك أحدهم, فتتركه, وقد فقدت الكثير من روحياتك, وتجد حرارتك قد انطفأت! وقد تخرج من القداس متعزيا, وفي حالة روحية. فيقابلك أحد معارفك, ويفتح معك موضوعات متعددة, بعضها شائك جدا, فتدخل أفكار ومشاعر إلي قلبك, تطفئ ما نلته في القداس من حرارة وتعزية.
ولذلك حسنا كان القديس مقاريوس الكبير, يقول للإخوة وهم خارجون من الكنيسة:
فروا يا إخوة فروا…
ثم يضع يده علي فمه ويقول من هذا فروا…
حقا ما أفيد أن يحضر إنسان القداس الإلهي, ثم ينصرف مباشرة مستفيدا من النعمة التي قد نالها, وهاربا من اللقاءات التي تتم خارج الكنيسة, في فنائها أو علي أبوابها… هاربا من الأحاديث والأخبار والسير والفكاهات والتعليقات… التي تبرد حرارته.
إن الشيطان قد لا يمنع الناس من الذهاب إلي الكنيسة, بل ينتظرهم خارجها ليبدد ما جمعوه!
منعهم من دخول الكنيسة حرب مكشوفة من السهل أن ينتصروا عليها. ولكنه ينتظر خارجا ويقول هلموا بنا نحكي, وفي حكاياته معهم يعمل لهم غسيل مخ, يضيع به كل ما أخذوه من بركة, أو علي الأقل يطفئ حرارتهم, وهكذا كثيرون يذهبون إلي الكنائس, ويرجعون إلي بيوتهم بلا فائدة!
وما نقوله عن القداسات, نقوله أيضا عن الاعتراف.
تذهب إلي أب اعترافك, وأنت مر النفس بسبب خطاياك, منسحق القلب جدا, يعصرك الندم علي ما فعلته.
وتريد أن تأخذ عقوبات كنسية تسحقك بالأكثر, وتريد أن تمارس تدريبات روحية تقدم حياتك وتنميها. وتخرج من عند أب اعترافك, وأنت في هذه الحرارة الروحية, وفي الطريق يقابلك صديق ليحكي لك آخر الفكاهات التي سمعها… وتفقد حرارتك!! حقا كما قال الحكيم في سفر الجامعة للبكاء وقت, وللضحك وقت (جا 3: 4). وواضح أن يوم الاعتراف ليس هو يوم الضحك…
4ـ من الأسباب التي تطفئ الروح أحيانا: شدة الحروب الروحية واستمرارها.
هناك حروب روحية تدعو إلي مزيد من الجهاد ومن الصلاة, بحرارة شديدة للتغلب عليها… ولكن هناك حروبا أخري ضاغطة ومستمرة, وربما فوق الاحتمال العادي. وهذه أن لم تؤد إلي السقوط في الخطية, فعلي الأقل تبرد الحرارة… وبخاصة حروب الفكر وحروب الحواس التي تستمر مدة طويلة… ولكن الله من مراحمه لا يدع هذه الحروب تسيطر, ويتدخل لإنقاذ عبيده…
تحدثنا عن الأسباب الخارجية لإطفاء الروح, ولا شك أن هناك أسبابا أخري عديدة.
ثم أن هناك أسبابا داخلية تطفئ الروح, من داخل قلب الإنسان, أو في صميم حياته الخاصة فكره ومشاعره وشخصيته.. نود أن نتحدث عنها في العدد المقبل, إن أحبت نعمة الرب وعشنا…