لم يكد يستقر المقام بالبارودي في منزله حتي وجه اهتمامه لتربية أولاده, فكان يجمعهم في سنواته الأخيرة, فيجعل لهم مكانا خاصا من البيت, لتلقي العلوم واللغات بأنواعها, علي يد أساتذة يحضرون في مواعيد محددة كأنهم في مدرسة نظامية. فيتتبع سيرهم كل يوم ثم يمتحنهم كل أسبوع مرة, ثم يمتحنهم آخر كل شهر ويوزع عليهم المكافآت.
هذا علاوة علي اهتمامه بإصلاح حالته المادية. ولم يعتمد علي عودة ممتلكاته إليه. ويعتبرها آخر المني, لكنه كان مهتما بالسعي بدأب لزيادة دخله, وهكذا تمكن بفضل جده من تجديد جزء كبير من ثروته, تركه لأهله وذويه, فكان طوال حياته مثال الهمة العليا, وكان الخديوي قد أعاد إلي البارودي ألقابه وأملاكه الموقوفة في 17 مايو 1900 ولم يكن معاشه الذي يتقاضاه يتجاوز الأربعين جنيها.
بعد عودته من المنفي نصح الأطباء البارودي بسكني حلوان فأقام بجوار أحمد شوقي كما ذكر شوقي نفسه في رسالة بعث بها إلي الدكتور محمد صبري الملقب بالسوربوني, فالدكتور صبري سافر إلي باريس للحصول علي الدكتوراه, وقضي هناك سنوات طويلة دون الحصول عليها, ومن طول الوقت أطلق عليه السوربوني, لدرجة أن الناس نسيت اسمه الأصلي, وأصبحت تقول عليه السوربوني.
وفي تاريخنا الأدبي سوروبوني آخر هو الدكتور محمد مندور, الذي سافر إلي باريس للحصول علي الدكتوراه, ولكنه ثقف نفسه ونهل من الحضارة الأوروبية ونسي الدكتوراه لدرجة أنه لم يحصل عليها إلا بعد عودته إلي مصر ومن إحدي الجامعات المصرية, وإن كان لم يحصل علي لقب السوربوني مثل الدكتور محمد صبري, الذي أصبح اسم جامعة السوربون بفرنسا مكملا لاسمه, رسالة شوقي للسوربوني أرسلت له عام 1923 ونشرها في الشوقيات المجهولة الجزء الثاني ص:175, لكن البارودي لم يعش طويلا في حلوان, لقد عاد بعد ذلك إلي داره بغيط العدة بباب الخلق في صيف عام 1901.
ولقد شهد بعض أصدقائه ممن لازموه في سنواته الأخيرة, بأنه قلما كان يوجد رجل أرق منه قلبا علي ذويه, وأحفظ عهدا لمحبيه, وعزوا ازدياد علته وتسارع انهيار بنيانه إلي إصابته النفسية والروحية بوفاة كريمتيه.
عاهد البارودي ربه ونفسه منذ عودته من المنفي علي ألا يتكلم في السياسة, أو يخوض في مناقشة مسائلها, أو يشير إلي ما مضي من أحداثها, كما قالته ابنته سميرة التي كلفها بأن تتولي قراءة المجلات والجرائد اليومية له, وذلك لكي يتحاشي التكلم فيما تتعرض إليه من مسائل سياسية وهو بحضرة أحد من أصدقائه أو معارفه, حتي كاتبيه ياقوت المرسي وعطية حسنين الذين يملي عليهما ما يريد كتابته, شعرا أم نثرا, وكان يتناوبون التملية منه, لأن بصره كان قد ضعف كفثيرا جدا في المنفي, وبعض الكتب التاريخية تذهب إلي إصابته بالعمي في أخريات حياته, لم يكن يسمح لهما بقراءة الجرائد والمجلات له.
وهذا هو الفارق بين البارودي وعرابي في هذه الناحية, فبينما كان البارودي يلتزم العزلة بعد عودته ويمتنع عن الخوض في الأحاديث السياسية, كان عرابي بثرثرته المعهودة يدلي بعد رجوعه لمصر, بتصريحات تؤيد الاحتلال وسياسته, فقابلتها الأمة بالفتور والسخط, فجلب بذلك علي نفسه سخط الصحافة والرأي العام.
فتح البارودي بابه للأدباء بينما أغلقه في وجه الساسة والحكام, فكان منزله بعد عودته من المنفي -مثلما كان قبله- قبلة الأدباء يفدون إليه من كل مكان فيعرضون عليه نتاج كتاباتهم, وخيالاتهم, وخلاصة فنهم, ليستفيدوا من حسن توجيهه وصدق نقده, وخبرته الفنية, ويستمتعوا بما ينشدهم من شعره, وبما يقص عليهم من تجاربه الشعرية.
ونكمل…
[email protected]