من لم يعرف مي غصوب, صاحبة دار الساقي بلبنان وبيروت في حياتها. سيفاجأ بعد رحيلها بكتابها: مزاج المدن. جمعه بعد وفاتها زوجها حازم صاغية. وهي مقالات كتبتها مي ونشرتها بالإنجليزية, ثم ترجمت إلي العربية, ومفاجأة القارئ الجوهرية أنه سيجد نفسه أمام ناشرة مثقفة, تكتب وترسم, وتطرح أسئلة الوجود الكبري علي الواقع من حولها, بل وتصادق الأدباء, فهي تسهر مع ميلان كوندرا, وتتابع عاشق مارجريت دوراس وألم آني أرنو, وإيزابيل أليندي, وظروف كتابتها لروايتها باولا, حول سرير ابنتها المحتضرة, حتي لو لم تنشر لهم في دارها.
في كتابها الذي أعتقد أن عنوانه الأكثر دقة: أمزجة المدن أو مزاج المدينة, تنتقل عبر طرح الأسئلة بين بيروت مدينة المنشأ, ولندن مدينة المنفي, في كتابها الكبير 335 صفحة من القطع المتوسط كتابة جديدة عن الصدق والكذب, وعن الهوية والإحساس بها, وهي التي وقفت عند خط التماس, بين الشرق والغرب, شعرت بماذا تعني الهوية؟ فقد حملت لبنانها وبيروتها وعروبتها إلي هناك, إلي لندن وباريس, وفرانكفورت, لكن الذي استوقفني في هذا الكتاب, مقالان: الأول لمن تكتب. والثاني قل لي: لماذا تكتب؟!, وهي تتعجب من السؤال الأول لمن تكتب؟ وتقول: إن السؤال الجوهري السابق كان لماذا تكتب؟ أو ما الذي يدفع الروائي لأن يقص قصته؟
وتتوقف أمام الإجابة التي قدمتها شهرزاد في سالف العصر والأوان. إنها تسرد من أجل البقاء علي قيد الحياة, لأنها إن توقفت عن الاستمرار في السرد ستموت, لكن السؤال الوجودي القديم, الذي كان يزلزل الكاتب, ويجبره علي الوقوف أمام نفسه, أصبح: لمن يكتب؟! المراهق قد يكتب لنفسه عندما يعاني أزمة عاطفية, لكن بالنسبة للكاتب المحترف, أصبح طرح السؤال يتم بطريقة اتهامية محملة بالازدراء, لأن معظم كتابنا يكتبون للغرب, وإن كان هناك فصيل من الكتاب العرب مازال يقول بنبرة بها شيء من التواضع والرضا عن النفس إنه يكتب لشعبه, الذي من المفترض أن يكون من شعوب الشرق.
وعندما تتفحص مي غصوب تلك الإجابة تشعر بالاستفزاز, فلا التواضع, ولا حكم القيمة الاتهامي من الأمور التي تتصل بحقيقة الكتابة كما تفهمها, فالله أعلم بالأسباب التي جعلت ولاتزال تجعل الكائن الإنساني يقوم بهذه المهمة, وهي نفس الأسباب التي تدفع الفنان للإبداع, والإنسان منذ الأزل للتكاثر, وهي تعترف أنها لا تكاد تتصفح في الفترة الأخيرة مجلة أدبية عربية, أو الصفحات الثقافية في الصحافة حتي تقع أبصارها علي عبارات تقول: إن هذا كاتب يكتب للغرب.
في مقابل هذا الكاتب الأصيل الذي لا يعبأ بأن يترجم إلي الإنجليزية أو الفرنسية. لقد أصبح الكتاب العرب يكتبون لقارات, وهكذا تحول السؤال الوجودي لسؤال جغرافي, وتقرر مواجهة الأمر بأكبر قدر من الصراحة, ذلك أن الاتهام يعني أن الكاتب غدا شهيرا في الغرب لأنه يكتب ليعجب الغربيين, غير أن الذين يكتبون لشعبهم الشرقي لا يكتبون ليعجبوا القارئ الشرقي. إنهم يفعلون نزولا عند أصالتهم وواجبهم تجاه الأمة, أو ربما كان الأمر أسوأ: إن المرء الذي قرأ وترجم إلي الإنجليزية والفرنسية, إنما كتب أصلا وبالضبط لهذا الغرض, وفي الحالتين يبقي الافتراض أن الكاتب ليس صادقا, وأنه لا يكتب بهدف فن السرد, بل بهدف الإرضاء.
أنا لا أعرف حقا لماذا يكتب الذين يكتبون, لقد سمعت الكثير من الإجابات التي تبدو مقنعة: إنني أحب القصص وأحب أن أشرك الآخرين في قصصي, أو لأنني أخذت كثيرا بفوكنر أو بنجيب محفوظ أو بسيمون دو بوفوار.. والجواب الأكثر إقناعا الذي سمعته حتي الآن هو ما ذكرته امرأة قالت: إنها تكتب لأن أباها توفي, وأنها منذ ذلك الحين تكتب. ويروي معظم الناس أنهم يكتبون لأنفسهم, وهذا صحيح بالتأكيد, إلا أنه صحيح جزئيا فقط, نظرا لوجود حافز النشر الدائم.
وكائنة ما كانت أسباب الكتابة, فإن أحدا لم يتحدث عن التوجه إلي كيان جغرافي, سمه الغرب أو الشرق أو أية حارة صغري من حارات أي بلد, فلقراء الأمة أو الطبعة أو القرابة المباشرة, يكتب الكتاب في العادة بيانات ومنشورات ولا يضعون كتبا.
وقد يظن الذين يتهمون الكتاب بـالكتابة للغرب أن هذا الغرب محشو بالمال, لكن الأحري بهؤلاء النقاد أن ينظروا حولهم قليلا ويروا إلي آلاف الكتاب الجيدين في الغرب ممن ينهشهم الفقر, فيصرفون معظم وقتهم في أعمال التحرير والتصحيح والإعداد والمراجعة لكي يؤمنوا خبزهم, أو أن ينتبهوا إلي عدد الروايات المهمة والجميلة التي تصدر وبالكاد يصل مجموع مبيع الواحدة منها إلي ألف نسخة.
وأتصور -تنهي مي غصوب شهادتها الخطيرة- أن الذين يتحدثون عن الكتابة إلي هذا أو ذاك من القراء إنما يخلطون بين الروائيين والسياسيين وكتاب الدعايات, فالأخيرون ينبغي أن يعرفوا سلفا القارئ الذي يتوجهون إليه, لأن قارئهم هو بالأساس المستهلك الذي يريدون بيعه سلعهم, أما الروائي فهو, في المقابل, من يحكي قصة وليس من يبيع جبنا أو عطرا, والأجبان والعطور باتت هي نفسها في الشرق والغرب حتي إن كاتب إعلاناتهم لم يعد, هو الآخر, مضطرا إلي التحدث بلغة الجغرافية القارية.
أنصحك من واقع تجربتي مع هذا الكتاب الجميل, عندما تقرأ كتابا هو في الأصل مجموعة من المقالات, أن تقرأ مقالا ثم تتوقف, وتعاود القراءة في المقال التالي, وهكذا لا تتعامل معه باعتباره رواية أو قصة, لابد أن تصل إلي نهايتها بسرعة, أي تقرأه علي أكثر من جلسة, ولا مانع أن تقرأ معه كتابا آخر, بهذه الطريقة فقط يمكن أن تصلك رسالته.