عندما قدمت لها مخطوطة روايتي أخبار عزبة المنيسي لكي تنشرها في هيئة الكتاب التي كانت رئيستها في ذلك الوقت, وقرأتها وقررت أن تكتب لها مقدمة دون أن تخبرني بذلك, فوجئت مفاجأة من أجمل مفاجآت العمر عندما عرفت بالمقدمة التي كتبتها لي, وكنت قد قابلتها في البرنامج الثاني في الإذاعة المصرية, لكي تناقش لي روايتي الأولي الحداد.
وعندما لاحظت تواضع الطبعة لأنني طبعتها علي نفقتي الخاصة, عرضت علي أن تصدر طبعة جديدة منها, فقلت لها, ولا أدري من أين واتتني الشجاعة وقتها: إن لدي رواية جديدة سأحضرها لها, لتأخذ فرصتها مثل الرواية الأولي تماما. رحبت فورا. وخلال أيام وكان ذلك في نهاية ستينيات القرن الماضي, كنت في مكتبها ومعي مخطوط الرواية.
إنها الأستاذة الدكتورة سهير القلماوي, وهي من هي.
ولكونها صاحبة أول دكتوراه, وتلميذة العميد طه حسين, كانت تريد دراسة الطب لتصبح مثل والدها, ولكن طه حسين, وكان صديقا للأسرة, اقترح علي العائلة أن تدرس الآداب, فاستجابت لرجاء طه حسين. هل يوجد لدينا الآن الأستاذ الذي يرعي طالبة قبل أن تضع قدميها في الجامعة وتستمر الرعاية حتي تصبح أستاذة؟.
عندما تعرضت لمضايقات ومعاكسات من الطلاب في ذهابها للجامعة, وعودتها منها, عين لها طه حسين حارسا يرعاها, حتي يضمن استمرارها في الدراسة. سهير القلماوي صاحبة الدراسة الرائدة عن ألف ليلة وليلة, والمترجمة والمشرفة علي ما لا يقل عن مائة رسالة دكتوراه وماجستير في الجامعات المصرية والعربية.
من تلاميذها الذين مازالوا بيننا: نبيلة إبراهيم, وجابر عصفور, الذي وصل من شدة ارتباطه بها أن أطلق اسمها علي اسم ابنته التي خطفها الموت وهي تخطو نحو شبابها, ورغم أن العائلة كانت تناديها سهي, إلا أن اسمها كان سهير, وعبدالمنعم تليمة, وأحمد شمس الدين الحجاجي, وغيرهم كثيرون من أساتذة النقد الأدبي المعاصرين في مصر والوطن العربي والعالم الثالث وربما العالم.
استمرت تكتب وتتابع وتنشر وتقوم بدورها كمقررة للجنة ثقافة الطفل في المجلس الأعلي للثقافة, حتي مرضت مرضها الأخير, كنت أقابلها سائرة علي قدميها في شوارع وسط البلد, بيدها حقيبتها التي لم تفارقها أبدا, وشعرها هالة من اللون الرمادي تري فيها شيخوخة تحب أن تنظر إليها أطول فترة ممكنة.
لدي قصة معها, أكتبها من باب النوستالجيا (الحنين للماضي), حتي نري كيف كانت علاقات النقاد بالمبدعين الشباب في ذلك الزمان البعيد, وهي القصة التي بدأت بها مقالي, وأعيدها وأكررها لتصل للناس, كل الناس, خاصة الأجيال الطالعة منهم, ومن المثقفين العرب الجدد, الذين لم يسعدهم زمانهم بالتعامل مع أساتذة كبارة من نوعية سهير القلماوي.
عرفت سهير القلماوي مبكرا. تحمست بدون حدود لروايتي الأولي الحداد, التي صدرت في مايو 1969, أتت للبرنامج الثاني في الإذاعة, البرنامج الثقافي الآن, لمناقشة رواياتي, يومها عرضت علي أن تصدر طبعة معقولة من رواية الحداد, أي أنها لم تقرأ الرواية فقط, وتأتي لمبني الإذاعة فقط, ولكنها لاحظت تواضع الطبعة, فعرضت علي أن تصدر طبعة جديدة منها, من يفعل هذا الآن, أو أقل منه؟!
خاصة أن طبعتها الأولي كانت فقيرة في الورق والإخراج, قلت لها: إن لدي رواية جديدة, وهكذا أصدرت لي أخبار عزبة المنيسي, بمقدمة كتبتها بنفسها وكان ذلك حدثا مهما في وقته وفي زمانه, كانت معنية بإظهار ما رأت أنه يمكن أن يشكل علامات طريق لروائي جديد, لدرجة أن الهنات التي كانت في الرواية, لم تحب أن تشير إليها, ولا أن تتوقف أمامها, لأنها كانت مدركة أن مهمة الناقد الكبير أن يأخذ بيد الشاب, وأن يدله علي علامات الطريق.
ثم أشرفت بعد ذلك بسنوات علي أول رسالة للماجستير عني وعن كتاباتي في معهد الدراسات العربية, التابع لجامعة الدول العربية, عرفت بعد ذلك أنها خاضت حرب استنزاف نقاشية داخل المعهد لتقنع مجلس إدارته بالموافقة علي رسالة الماجستير, لأن معظمهم لم يكن قد سمع باسمي من قبل, لكنها كانت تشجع صاحب الرسالة الطالب الفلسطيني, وتمنح مبدعا شابا فرصة أن تكون هناك رسالة جامعية عنه.
ثم ظلت تتابعني عن كثب تقرأ ما أنشر, تشرح لي رأيها فيه. أتردد عليها في هيئة الكتاب, في إحدي هذه الزيارات قابلت عندها عبدالمحسن طه بدر, كانت تناديه بمحسن, كان يقدم لها كتابه عن الروائي والأرض, لتنشره في الهيئة, آخر زيارة لها أدمت قلبي كثيرا, عرفت أنها مريضة في المركز الطبي للمقاولين العرب.
ذهبت إليها دخلت, وجدتني في مواجهتها, حزنت وذهلت, لأنها لم تعرفني, رفعت صوتي, ذكرت اسمي ثلاثيا, نطقته بالطريقة التي كانت تحب نطقه بها, محمد يوسف القعيد, لم تعرفني, ذكرت اسم روايتي, لم تتذكرها, وفي النهاية وقبل أن تطردني خرجت حزينا علي ما يفعله المرض بالإنسان, كانت ذاكرتها أقوي ما فيها, وكان حضورها الإنساني الوهاج يشع, ويعلن عنها حتي قبل أن تصل إلي الإنسان.