في رمضان من كل عام نشاهد مسلسلات تليفزيونية, نري منها الممثلون في مشاهد تمثيلية, ولا ندرك أن من أهم مكونات هذه المسلسلات الأغنيات المصاحبة للتترات في مقدمة كل مسلسل ونهايته, وهذه الأغنيات يكتبها شعراء معروفون ولهم شهرة مدوية, ولكنهم لا يستطيعون استخدامها باعتبارها شعرا خالصا بسبب عقود الإذعان التي يوقعونها مع الشركات التي تدفع لهم الكثير, نفس الشيء يقوم به الملحنون ويسعي إليه المطربون, شاعر واحد حاول منذ سنوات طبع هذه الأشعار في كتيب جري توزيعه كملحق لمجلة الثقافة الجديدة. إن هذا الشاعر الذي حاول أن يخرج علي هذا الصمت هو سيد حجاب -رحمه الله رحمة واسعة- وكل هذا منذ سنوات, وإن كان لم يعد إلي نفس التجربة من قبل.
لي تجربة شخصية مع مثل هذا الابداع المحبوس, فقد جري تحويل روايتي وجع البعاد إلي مسلسل عرض في رمضان أيضا, كتب له السيناريو والحوار السيناريست والقصاص مصطفي إبراهيم, وأخرجه المخرج الجميل إسماعيل عبدالحافظ, الذي قدم أعذب المسلسلات في تاريخ الدراما التليفزيونية. تبقي تترات أغنية المقدمة والنهاية للمسلسل الذي كان مثل الراوية, يتحدث عن فترة القطيعة بين مصر والوطن العربي بعد التوقيع علي كامب ديفيد, ويومها سمحت الرقابة بما جري في الواقع وإن كانت قد حذفت كل ما يخص دور الرئيس السادات في التوقيع علي المعاهدة والوصول بالعلاقات مع الأشقاء العرب إلي حدود القطيعة, وأيضا فقد جري حذف مشهد يلتقي فيه أسامة علوان العائد برسالة من شاب مغترب في الدول العربية إلي أهله, ويحدث أن يكون موكب ديان وزير دفاع العدو مارا بأحد شوارع القاهرة, ويتعطل سير العائد من الدولة العربية الشقيقة برسالة من شاب لأهله, بسبب موكب العدو الذي تصوروا وقتها أنه أصبح صديقا. المهم أنني عندما حاولت الحصول علي نص كلمات سيد حجاب في المقدمة التي لحنها محمود طلعت, وكان اكتشافا وقتها لإسماعيل عبدالحافظ, وغناها علي الحجار, قيل لي إنه لابد من استئذان الشركة المنتجة للمسلسل.
ولأن المسألة كانت صعبة.
توقفت عن الاستمرار في المحاولة, ولأن مشاغل الحياة تأخذنا من أنفسنا, فلم أعاود الأمر, علما بأنني مازلت حتي الآن كلما رن في أذني تترات المقدمة والنهاية لمسلسل وجع البعاد, وشعر الشاعر الجميل الذي رحل وتركنا نتعذب بفراقه سيد حجاب.
ما أكثر ما نفتقده في رحلة الحياة, وما أصعب وما أقسي البحث عما فقدناه, في كل رمضان أعيش وجع البعاد, وافتقد موسيقاها وأشعار تترات المقدمة والنهاية, وأعيش حالة من النوستالجيا -مرض الحنين للماضي- ولا أعرف ماذا يمكن أن أفعل؟ ألا يعد كل هذا الابداع الجميل ابداعا محبوسا؟ وألا يعد الحرف المكتوب كنزا من الكنوز لأننا نستطيع استعادته وقتما شئنا؟ أما جميع مكونات الواقع الافتراضي, فهي مشكلة أخري, وبدلا من أن يكون إبداعا رمضانيا محبوسا, فإنه يصبح إبداعا رمضانيا مستحيلا.