توقفت أمام ظاهرة لفتت نظري, ألا وهي: الأدباء الذين يؤسسون دور نشر ويستمرون في عطائهم الأدبي, خاصة من الأشقاء العرب, أعرف أن الظاهرة بدأت في مصر. لا يستطيع الإنسان أن ينسي دار مصر للطباعة التي أسسها عبدالحميد جودة السحار, وشقيقه سعيد جودة السحار, وكانت في الأصل دارا اسمها: دار النشر للجامعيين, ثم تحولت إلي دار مصر للطباعة.
لولا دار ومكتبة مصر للطباعة, ما قرأنا النتاجات الأدبية لنجيب محفوظ وجيله. فيها صدرت الطبعات الأولي من مؤلفات نجيب محفوظ, بأسعار رخيصة, بأغلفة شديدة التميز. كان يرسمها جمال قطب, لكنها لم تصبح دار الأديب الواحد, فمن خلالها قرأنا مؤلفات سعيد جودة السحار وعلي أحمد باكثير وعادل كامل وثروت أباظة ومحمد عبدالحليم عبدالله وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس.
بل إن دار مصر للطباعة كان فيها مشروع مهم للترجمة في خمسينيات القرن الماضي, حيث ترجمت روائع المسرح العالمي, ونشرت آرثر ميللر وتينيسي وليامز وهينريك إبسن وبعض أعمال شكسبير وموليير وراسين, بل إن كتاب: فجر الضمير لجيمس هينري بريستيد, نشرت ترجمته العربية أول ما نشرت في دار مصر للطباعة.
ولدينا الآن في مصر دار ميرت, وميرت اسم ابنة محمد هاشم, صاحب الدار. ومحمد هاشم بدأ روائيا, وله رواية منشورة, لكنه هجر الكتابة الروائية -علي الأقل مؤقتا- وأسس أهم دار نشر تتولي نشر إبداعات الشباب, وما من جوائز لأدب الشباب لا يكون لمنشورات دار ميرت نصيب الأسد منها, فضلا عن أنها كانت أقرب دار نشر لميدان التحرير, وعندما يتم تدوين تاريخها سنعرف أنها أصبحت مستشفي ميدانيا متقدما خلال الفترة من الخامس والعشرين من يناير وحتي الحادي عشر من فبراير, ومنها انطلقت قوافل الطعام والشراب لمن كانوا في ميدان التحرير, وربما كان عند محمد هاشم سجل حقيقي بوقائع هذه الأيام الثمانية عشر التي غيرت مصر من حال إلي حال.
أعود للأشقاء العرب, وقفت أمام جناح دار الحوار في سوريا, وهي دار أسسها نبيل سليمان الروائي السوري المعروف, الذي لا يكتفي بكتابة النص الروائي, لكنه يتابع الإبداعات الروائية العربية, خاصة الشابة منها, ودار الحوار وكان مقرها اللاذقية لم تكتف بنشر إبداعات نبيل سليمان, ولا نشر دراسات عنه. ولكنها أصبحت في سنوات قليلة واحدة من أهم دور النشر العربية التي تنشر الإبداعات العربية الجديدة والمترجمات الأدبية ذات الطابع الخاص, والتي لا يحدث لها رواج جماهيري علي طريقة الكتب الأكثر مبيعا, لكنها من الكتب ذات الوزن الثقافي الثقيل, التي لا توزع بالآلاف, لكن تأثيرها يتجاوز التوزيع بالآلاف.
يبقي في دار الحوار هذه القدرة الفريدة علي العمل رغم ظروف سوريا المحزنة والمأساوية التي تمر بها, أكبر بطولة شعرت بها في معرض هذا العام عندما وقفت في جناح دار الحوار أن أجد أن لديهم أعمالا أدبية جديدة مترجمة ومؤلفة رغم أن الظرف الاجتماعي الذي تمر به سوريا يمنع الإنسان من ممارسة حياته ويحول دون الكتابة ويقف عائقا أمام فكرة النشر.
البطولة ليست قاصرة علي نبيل سليمان وداره, لكن جميع الناشرين السوريين الذين أضاءوا المعرض بكتبهم الجديدة والقديمة, يستحقون أن ننحني لهم وأن ندرك أن أهل الشام قادرون علي قهر الصعاب وعمل المعجزات.
أزمة دار نشر أخري أسسها إلياس فركوح, وهو روائي عربي أردني ومترجم تنبع أهميته من قدرته الفريدة علي اختيار ما يترجمه, وإلياس فركوح إلي جانب أنه ينشر للأصوات الجديدة الواعدة من شباب الأدباء العربي, يركز علي مشروع يخصه ينفرد به ولا نجده لدي أي دار نشر أخري, ألا وهو الاهتمام بالعملية الإبداعية وعادات الكتابة لدي كبار الكتاب وخفايا التدوين يساعده في ذلك الروائي والناقد المغربي أحمد المديني, تلمح اختيارات إلياس فركوح في كل حرف ينشره, لا يعنيه أبدا كتب ألبست سيلر ولا الكتب الأكثر توزيعا, لكنه صاحب مشروع يقوم علي المردود الثقافي لكل حرف ينشره في داره المهمة.
.
دار طوبقال يمتلكها الشاعر والمثقف العربي المغربي الكبير محمد بنيس, عندما كنت في المغرب آخر مرة, وكنت في طريقي من الدار البيضاء إلي الرباط بالسيارة. تعطلت بنا سيارتنا, فتوقفنا في قرية, قيل لنا إن اسمها المحمدية, وقال لنا الناس من باب الفخر إنها قرية محمد بنيس, وفاتني أن أسأل: هل اسم القرية يعود لمحمد بنيس؟ أم أن الأمر صدفة؟
تقف في جناح دار طوبقال الذي هو جزء من جناح ناشري المغرب جميعا, فتصاب بدهشة من دقة الاختيار وجمال الإخراج والتركيز علي كل بقعة ضوء يمكن أن تساعد العرب والمسلمين علي الخروج من مأزقهم الراهن بأقل الخسائر الممكنة, إن كان ثمة عيب وحيد في دار طوبقال هو ارتفاع أسعار كتبها بشكل جنوني, متوسط سعر الكتاب أيا كان عدد صفحاته لا يقل عن السبعين جنيها, وهو مبلغ كبير, لكن الإغراء يظل قائما في أن تضم مكتبتك ما تنشره هذه الدار المهمة.
دار الآداب علامة مهمة في تاريخنا الثقافي في القرن العشرين, لولا دار الآداب ما تكونت ثقافتنا في ستينيات القرن الماضي, بفضلها قرأنا للمبدعين العرب الذين لم تكن تصل أعمالهم إلي القاهرة, ولولاها وهي الدار التي نشرت محاولات التجديد الشعري لصلاح عبدالصبور وأبناء جيله, ومن خلال ترجمتها عرفنا جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كاميه, وظلت الدار حتي اللحظة الأخيرة تتميز باختياراتها المبهرة والجميلة لكل ما تنشره.
غيابها عن معرض القاهرة الدولي للكتاب, ربما كانت له أسبابه, لكن المؤسف أن الغياب في العام الثاني سبقه إعلان توقف مجلة الآداب عن الصدور نهائيا, ومجلة الآداب لم تكن تصل لمصر في السنوات الأخيرة, ولا أعرف السبب في توقف المجلة الرائدة والمهمة عن الصدور, هل هي أزمة أموال؟ أم أزمة ديمقراطية؟ أم أزمة تدخلات وضع لبناني داخلي؟
[email protected]