2- دائما يشكر:
أما الصفة الثالثة, فهي أن الشخص صاحب الروح المتضع دائما يشكر, يقمع ذاته, فلا يتذمر علي شيء, بل يشكر في كل شيء, أما غير المتضع فدائما يشكو, وهذه نقطة خطيرة للغاية, فالشخص الذي له الروح المتضع يري كل شيء به حلاوة وترتيب, ويد الله هي التي تعمل وترتب كل شيء..
ونتذكر هنا قصة القديس الأنبا موسي الأسود, عندما أرادوا رسامته كاهنا, وعند دخوله الكنيسة, قال الأب البطريرك: من الذي أدخل هذا الأسود إلي هنا, وما كان من قديسنا إلا أنه خرج بكل هدوء! قائلا: من الذي أتي بي إلي هنا؟! فلم يتذمر أو يشكو أو يصرخ أو يقول مثلا: هل هذه آخرة التوبة.. وبعدما خرج أرسل في طلبه الأب البطريرك, وقام برسامته كاهنا, وكان هذا مجرد اختبار لذات هذا القديس العظيم.
وفي إحدي المرات, دعي الآباء الأنبا موسي إلي محاكمة أحد الإخوة كان قد أخطأ, فحضر القديس وهو يحمل جوالا علي ظهره مليئا برمال البرية! حيث كان الجوال به ثقب تنزل منه الرمال طوال الطريق, وعندما سأله الآباء ما هذا الذي تحمله؟! قال هذه العبارة الجميلة: هذه خطاياي وراء ظهري تجري دون أن أبصرها, وقد جئت اليوم لإدانة غيري علي خطاياه..
فالتذمر لا يعرف طريق الشخص الذي له الروح المتضع, هو في كل الأحوال يقول: الله هو الذي يدبر كل شيء..
4- يعرف مسئولياته وحدوده:
الصفة الرابعة للشخص الذي له الروح المتضع, أنه شخص يعرف مسئولياته وحدوده تماما, فقد نجد شخصا لا يعرف حدوده, وهذا الأمر نجده كثيرا جدا, فالابن قد لا يعرف حدوده! وهكذا الحال مع الأب أو الأم أو الخادم أو.. إلخ.
القديس يوحنا المعمدان, هو شخص كان مشهورا جدا في زمنه, وكان معتبرا, ومع هذا عندما جاء المسيح قال: ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص (يو3:30), فقد كان يعرف حدوده جيدا, فأحيانا عندما تأتي المشكلات, نجد البعض يتصرف بطريقة يتعدي بها حدوده! وقد يكون ذلك باللفظ أو بالفعل أو بالتصرف..
وعندما نتأمل في قصة القديس الأنبا صرابامون أبو طرحة, وقد كان أسقفا مباركا, وأعطاه الله موهبة إخراج الشياطين, ففي أحد الأيام طلب منه الأب البطريرك إخراج الشيطان من أحد الأشخاص فاعتذر!
وعندما ألحوا عليه, قبل بشرط أن يصلي لهذا الشخص بصليب الأب البطريرك, رغم أن البابا يدرك تماما أن هذه الموهبة عند القديس الأنبا صرابامون وليست عنده هو, وهذه مهارة عند الإنسان.
فيجب علي كل شخص أن يعرف حدوده, فالشخص الذي له الروح المتضع يعرف مسئولياته وحدوده تماما ويقوم بها, ولا يكسل.
فمثلا الراهب الذي اختار طريق الرهبنة, يجب أن يعرف أن قوته ليست في مال, ولا في زي كنسي, ولا في ملبس, ولا في مكان, ولا في لقب, ولا في فكر, ولا في عمل معين يقوم به, ولا في مهارة, ولكن قوته في شيء واحد فقط هو اتضاعه.
فما الذي جعل العالم كله ينجذب إلي البراري المصرية, كما نقرأ في كتب القرن الثالث والرابع والخامس الميلادي في بدايات نشأة الرهبنة؟ وكيف أن هؤلاء الرهبان تركوا العالم وكل ما فيه, وانعزلوا في البراري؟ وما الذي جعل العالم كله يجري وراءهم؟
إنه شيء واحد فقط, هو الاتضاع.. فهم لا يملكون شيئا سواه, إذا قوة الراهب ليست في اسمه أو شكله أو قوته, بل هي في اتضاعه.. وهذا الاتضاع يظهر في طاعته, وفي علاقاته بإخوته وفي سلوكياته, وفي كلامه حتي في ملبسه أيضا.
5- يكرر بعض عبارات الصلاة:
في لسانه دائما عبارات يكررها مثل: يارب كمل أيامنا بسلامك, أو يارب أعطنا النهاية الصالحة, أو ارحمني يا الله..
وتقال هذه العبارات من القلب, فهو لا ينسي نفسه, ومن العبارات أيضا: أخطأت, وهو لا يقولها بدون إحساس بل يقولها في مكانها, وفي الدير عندما يقول راهب لآخر أنا أخطأت, من الممكن أن يعمل له ميطانية حتي الأرض! وذلك بسبب إحساسه, إنه أخطأ بالفعل في حق أخيه وأنا أكون في قمة السعادة, عندما أجد أما تعتذر لابنتها أو أبا يعتذر لابنه, رغم أنه من المفترض حدوث العكس باعتبار أن الصغير هو الذي يعتذر للكبير.
فكلمة أخطأت أو أنا آسف, لا تقلل من كرامتك, بل تظهر روح اتضاعك, فالشخص المتضع دائما في لسانه بعض العبارات التي يكررها, وتكشف ملامح عن اتضاعه الداخلي.
قصة..
بدأت المفاوضات الخاصة بشراء مبني كنيسة القديس يوحنا -في وست كوفينا, كاليفورنيا- تتعثر, إذ ظهرت مشاكل في الشراء.
قلق البعض, وبدأ الكثيرون يبحثون عن حلول, فالأرض متسعة جدا, والشعب يتزايد, ولم يعد نشاط الكنيسة يحتمل تأجيل الشراء!
لقد أنهك المرض قوي الشماس الشيخ ألفريد حنا, لكني بقي قلبه الملتهب بنار روح الله القدوس شابا لا يعرف الشيخوخة أو الضعف. كان يردد مع مسيحه: أما الجسد فضعيف, وأما الروح فنشيط.
ماذا يفعل هذا الشماس المنهك القوي بجسده المريض, والغني بروحه وإنسانه الداخلي؟! لقد شعر بالمسئولية كعضو في الكنيسة.. إنه ليس بكاهن ولا عضو في مجلس الشمامسة, لكنه عضو في جسد المسيح, كنيسة الله, لهذا صمم علي شراء المبني.
امتص موضوع شراء المبني كل تفكيره, وشغل أحلام يقظته.. لكن ماذا في يديه؟! انطلق في الصباح المبكر جدا إلي الأرض الجديدة المختارة للشراء, ودخل إلي حديقتها المتسعة ووجه أنظاره نحو مبني الكنيسة. بسط يديه للصلاة يطلب عونا إلهيا.
إنها كنيسة المسيح, إله كل المستحيلات! انحني ليركع علي العشب مؤمنا أن الركب المنحنية تحرك قلب خالق السماء والأرض.. ثم قام منتصبا. وعاد يكرر السجدات, واحدة تلو الأخري, طالبا مراحم الله, صانعا سجداته 400 مرة بالرغم من مرضه!
عاد إلي بيته والفرح يملأ قلبه, كأن أبواب السماء قد انفتحت لتستجيب صلاته وسجداته (ميطانياته) وشعر أنه كسب الكثير!
استعذب هذا العمل الخفي, فصار يكرره يوما فيوما دون توقف, ليبدأ صباحه بالميطانيات الأربعمائة علي العشب.. وهكذا نظر الله إلي حبه وتواضعه وغيرته وسمع له!
اشتري مبني الكنيسة, وكان المساهم الأول هو هذا الشماس التقي الذي قدم قلبه وحبه وأسلوبه الروحي قبل أي تبرع مادي!
هذا هو الشخص ذو الروح المتضع, الشاعر بمسئوليته والدائم الصلاة.