عودة معنويات التلاميذ
وقوة قيامته, أعادت للتلاميذ معنوياتهم, وأظهرت أن الحق مهما بدا منهزما في بادئ الأمر, فلابد سينتصر أخيرا..
وإن الباطل قد يبدو معتزا ومنتفخا ومفتخرا باضطهاده للحق, ولكنه ما يلبث أن يتبدد أمام قوة الحق.
إن الباطل كالدخان, يرتفع إلي فوق, أعلي من النار بكثير, أعلي من حرارتها ونورها, وما يلبث أن يتبدد.
الدخان الذي يحاول أن يطمس نور النار, مرتفعا إلي فوق, يحدث أنه كلما يرتفع, وتتسع رقعته, في نفس اتساعه تخف حدته, وتضعف قوته ويتبدد ويتلاشي وتبقي النار كما هي في قوتها وفي نورها وحرارتها, علي الرغم من اتضاعها وعدم منافستها للدخان في العلو والاتساع.
هذا يذكرنا باتضاع المسيح في قيامته علي الرغم من قوتها, ذلك أنه صلب علنا أمام الكل.. أما قيامته في عظمتها فقد جعلها في الخفاء لم يرها أحد!
لم يروه أثناء القيامة, لكن الكل رأوا القبر الفارغ, ورأوا الأكفان مرتبة.. فكيف خرج منها وتركها هكذا مع كل حنوطه الذي كان نحو مائة منا (لتر 1) (يو19:29).
أليست هذه معجزة واضحة؟
من معجزاته الأخري بعد القيامة ظهوراته للتلاميذ, التي تعطينا وجها آخر للقيامة هو التعزية والفرح..
حقا إن القيامة تعطي عزاء لمن تركه أحباؤه بالموت, وهذا العزاء تمتع به التلاميذ حينما رأوا الرب الذي كان قد سبق فبشرهم بذلك حينما قال: ولكني سأراكم أيضا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم (يو16:22).
وكما فرح التلاميذ إذ رأوا الرب, كان هذا الأمر مفرحا للعالم كله, إذ أن الرب قدس الطبيعة البشرية في قيامته, ومنحها القدرة علي القيامة من الموت.. وصارت قيامته عربونا للقيامة العامة.
إننا نفرح بقيامته, لأنها قيامة لنا أيضا, قيامة لطبيعتنا.
هذه القيامة غيرت الأوضاع كما قلنا.. وكان لها مفعولها العجيب في نفسية التلاميذ الذين خرجوا من العلية بكل جرأة.. وطافوا يبشرون بقيامة الرب في كل مكان.
وهؤلاء الذين كانوا خائفين في العلية لا يتكلمون, إلي أقطار المسكونة بلغت أقوالهم.
وبطرس الذي أنكر الرب من قبل, وحلف أنه لا يعرف الرجل, عاد ليعلن إيمانه به في كل مكان مبشرا باسمه. وحينما كانوا يهددونه, ما كان يخاف بل قال عبارته الخالدة: ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس (أع5:29).
لقد زال خوف التلاميذ من الموت, لأنه بقيامة المسيح ما عاد الموت يخيفهم.
وما عادوا يخافون السجن ولا العذابات.. بل إنهم بعد أن جلدوهم وسجنوهم, يقول الكتاب: إنهم ذهبوا فرحين: لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا لأجل اسمه.. وكانوا لا يزالون كل يوم في الهيكل وفي البيوت معلمين ومبشرين بيسوع المسيح (أع5:41, 42).
إن عودة معنويات التلاميذ كان سببها القيامة. وكان لها سبب آخر, هو افتقاد الرب لهم بعد قيامته.
الرب يفتقد تلاميذه
لم يصعد الرب مباشرة بعد قيامته بل ظل أربعين يوما مع التلاميذ, يفتقدهم ويعزيهم ويقويهم, ويشرح لهم تفاصيل خدمتهم المقبلة, ويقدم لهم تعليمه وما يمكن أن يلقنوه للناس من عقائد الإيمان.
وفي ذلك يقول معلمنا القديس لوقا: الذين أراهم أيضا نفسه حيا ببراهين كثيرة بعدما تألم, وهو يظهر لهم أربعين يوما, ويتكلم عن الأمور المختصة بملوت الله (أع1:3).
حقا ما كان ينفعنا أن يصعد الرب مباشرة بعد قيامته, إذ كان هناك عمل رعوي يعمله قبل الصعود.
بدأت عملية الافتقاد, حينما قال لمريم المجدلية: اذهبي وقول لإخوتي أن يمضوا إلي الجليل. هناك يرونني (متي28:10).
ثم ظهر لبطرس كنوع من التعزية الخاصة له إذ كان مر النفس بعد نكرانه للمسيح.. ونلاحظ أن الرب لم يوبخه علي ذلك بكلام يؤلمه, إنما قال له في رقة يا سمعان بن يونا, أتحبني أكثر من هؤلاء؟.. ارع غنمي.. ارع خرافي (يو21:15-17).
وهكذا أعاده إلي الرسولية, التي ربما كان قد خاف أن تنزع منه بعد نكرانه.
وكما افتقد الرب مريم المجدلية, وبطرس افتقد أيضا توما ليزيل منه الشك..
أراه يديه المثقوبتين لأجله, وجنبه المجروح, وقال له: هات يدك ولا تكن غير مؤمن, بل مؤمنا (يو20:27), ولم يتركه إلا وقد آمن.
هكذا الرب كان رقيقا مع الكل..
وفي شك التلاميذ الأحد عشر في موضوع القيامة, دخل عليهم والأبواب مغلقة.. ولما ظنوه روحا, قال لهم: ..انظروا يدي ورجلي, إني أنا هو. جسوني وانظروا, فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي (يو24:37-40).
في قيامة الرب, كما أعاد معنويات التلاميذ, وأزال شكوكهم, كذلك أكمل عمله التعليمي لهم, وفتح عقولهم ليفهموا..
ويظهر هذا في لقائه مع تلميذي عمواس, إذ يقول الإنجيل.. إنه ابتدأ من موسي ومن جميع الأنبياء يفسر لهم الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو24:27).
ومن جهة الأحد عشر قال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم, إنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسي والأنبياء والمزامير.. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب (لو24:44, 45).
وبعد قيامته أيضا منح تلاميذه سر الكهنوت وسلطان الحل والربط.
فقال لهم: كما أرسلني الآب, أرسلكم أنا.. ولما قال هذا, نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه, تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت (يو20:21, 22).
ولما أكمل تسليمهم كل قواعد الإيمان وكل الأسرار وكل الطقوس, قال لهم: اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس, وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به.. (متي28:19, 20). اذهبوا إلي العالم أجمع, وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص (مر16:15, 16).
ووعدهم بأن يكون معهم قائلا: ها أنا معكم كل الأيام وإلي انقضاء الدهر (متي28:21).
مبارك الرب في قيامته, وفي كل ما عمله لأجلنا بعد قيامته.