لم تكن التجربة المزدوجة التي أحاطت به, بسبب خطية ارتكبها… فقد شهد الله نفسه له مرتين أنه ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم. يتقي الله, ويحيد عن الشر (أي 1:8) (أي 2:3).
فإذا كان أيوب كاملا ومستقيما, فلماذا كل المتاعب التي أصابته؟ ماذا كانت مشكلته؟ لم تكن له مشكلة إذن. لماذا حدث ما حدث؟
المشكلة أنه كان رجلا بارا ويعرف عن نفسه أنه بار!
كان يثق في داخل نفسه أنه بار.. كان بره أمام عينيه في كل ما حدث له, وكان بره أمام عينيه في كل ما دار بينه وبين أصحابه الثلاثة من حوار ساخن استمر 28 اصحاحا, واختتم بهذه العبارة فكف هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب, لكونه بارا في عيني نفسه (أي 32:1) وكان هذا البر الذاتي أيضا هو سبب العتاب الطويل الذي كان بينه وبين الله, مما سنشرحه بتفصيلة…
ولقد أراد الله أن ينقذه من هذا البر الذاتي.. هذه واحد والنقطة الثانية هي أن أيوب كان رجلا عظيما محترما من الجميع..
كانت تحيطه مظاهر الاحترام والتوقير والعظمة من كل ناحية. ويقول عنه الكتاب إنه كان أعظم كل بني المشرق (أي 1:3)
وكان غنيا جدا: كانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف جمل, وخمس مائة فدان بقر, وخمس مائة أتان. ولكن خدمه كثيرين جدا (أي1:3) وكل هذا يعطينا فكرة أن الغني لا يتنافي مع البر.
فمن الممكن أن يكون الإنسان غنيا, وفي نفس الوقت يكون كاملا ومستقيما. مثلما كان أيوب.
بالإضافة إلي كل هذا, كان أيوب سعيدا كرب أسرة فقد ولد له سبعة بنين وثلاث بنات (أي 1:2).
وقد عاش أيوب في عصر ما قبل أبينا إبراهيم أبي الآباء والأنبياء, في العصر الذي كان فيه رب الأسرة هو كاهن الأسرة, يقدم الذبائح عنها وهكذا قيل عن ـ أيوب ـ بالنسبة إلي أولاده ـ أنهأرسل فقدسهم, وبكر في الغد, وأصعد محرقات علي عددهم, كلهم. لأن أيوب قال: ربما أخطأ بني وجدفوا علي الله في قلوبهم! هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام (أي1:5) وهنا نلمح نقطة أخري قد تشير هي أيضا إلي البر الذاتي!
لماذا يا أيوب تقدم محرقات عن خطايا أولادك, ولا تقدم عن نفسك معهم؟
تقول ربما أخطأ بني وأنت ألم تفكر أنك ربما أخطأت في شيء؟ أم تعرف عن نفسك أنك رجل كامل ومستقيم, تتقي الله وتحيد عن الشر؟!
نتابع كلامنا عن عظمة أيوب وغناه فنقول أيضا: لقد أعطاه الغني فرصة للإحسان والكرم فأصبح محاطا بمعجبين ومحبين وقراء كثيرين ينالون الرحمة من يديه.
كانت الحياة سهلة أمامه, هينة, مبهجة. يعيش في الفردوس, دون أن يدخل مطلقا إلي بستان جثماني.. وكأنه ينصب له خيمة علي جبل التجلي!
كان يعيش إلي جوار شجرة الحياة, ولم يتعود علي حمل الصليب بعد. كان من الذين دخلوا إلي ملكوت الله, والباب واسع والطريق رحب, بدون خطية, ولقد أراد له الله أن يجرب الطريق الضيق والصليب والجلجثة, يجرب الأحزان والضيقات, ليأخذ بركة الضيقات.
لقد أخذ بركة الغني, فليأخذ بركة الفقر أيضا عاش في بهجة الحياة زمنا, إلي أن حل موعد التجربة وجاء الوقت الذي يواجه فيه الصليب ولكن كيف ذلك؟
بدأت تجربته بحسد الشيطان له:
وكذلك حدث لأبينا آدم وأمنا حواء من قبل. حسدهما الشيطان وعمل علي إسقاطهما. وهكذا نقول في القداس الإلهي الموت الذي دخل إلي العالم بحسد إبليس… ودائما يريد الشيطان بنا شرا ولكن الله برحمته يحول هذا الشر إلي خير وهذا نفس ما حدث لأيوب.
أراد الشيطان أن يضره. واستغل الله حسد الشيطان لكي يرفع أيوب إلي درجة أعلي وأسمي فينجيه وينقيه.
والشيطان أراد أن يؤذي أيوب من جهة, لعل هذا الإيذاء من ناحية أخري, تكون نتيجته أن يجدف أيوب ويصبح خاسرا للدنيا والآخرة. أما الله فقد سمح للشيطان أن يجرب أيوب لكي يتمجد أيوب أكثر فأكثر, ويصبح مثالا يقتدي به (يع 5:11) وتمنحه التجربة شهرة كبيرة.
وتقدمه درسا للأجيال, وتكون نهايتها بركة مضاعفة له..
عجيب هو موقف الله من الشيطان في سفر أيوب! فيه الكثير من تواضع الله. ومن مبدأ تكافؤ الفرص سمح له أن يمثل بين يديه. وأن يندس وسط أولاده الله (أي 1: 6)
بل أكثر من هذا, سمح له أن يكلمه وأن يجادله, وأن يشتكي أمامه ضد ابن عزيز عليه هو أيوب بل سمح له أن يأخذ منه سلطانا ضد هذا الرجل الكامل المستقيم, وأن يخرج ليخرب ويقتل..
قال له الله من أين جئت؟ فأجاب من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها (أي1:7) وكان الشيطان في تلك الإجابة يذكر نصف الحقيقة فلم يذكر أنه خلال ذلك الجولان في الأرض. كان يضل النفس ويسقطهم. ويخرب بيوتا كثيرة فتعرض الله لعمل الشيطان. وأراد أن يظهر له ضعفه. فسأله, هل جعلت قلبك علي عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض في كل الأرض التي تتمشي فيها..
جميل أن الله يفتخر بأولاده ويمتدحهم, ويتحدي الشيطان بهم.
إن كان الشيطان قد أسقط كثيرين فإن أيوب ليس مثلهم لأنه ليس مثله ف الأرض. إنه نوعية أخري. رجل كامل ومستقيم. فهل رأيت أيها الشيطان هذه التحفة الجميلة التي اسمها أيوب؟ هل جربت حيلك معه؟ هل قدرت عليه؟ هل صعدت إلي مستوي محاربته؟
وقطعا كان الشيطان قد مر عليه وفشل… ولكنه لكي يخفي خجله من فشله, حاول أن يبرر ذلك بقوله, هل مجانا يتقي أيوب الله؟ (أي 1:9)
أليس أنك سيجت حوله وحول بيته من كل ناحية. باركت أعمال يديه. فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ماله. فإنه في وجهك يجدف عليك (أي 1:10, 11).
وكان الشيطان يكذب في هذا الادعاء فقد كان آدم معه أكثر مما كان مع أيوب من الغني وسقط. إذن بركة الغني ليست هي التي تحفظ من السقوط. كما لم تحفظ سليمان بعد ذلك بزمن طويل (جا2).
كان الله واثقا من أيوب وقوة احتماله, فسمح للشيطان أن يجربه وقال للشيطان هوذا كل ماله في يدك. ولكن إليه لا تمد يدك.. إنما سماح بشرط, له حدود.. وخرج الشيطان ليعمل في غير رحمة. يضرب بعنف… لا ضربة واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثا, وإنما بتخريب شامل!! ضربات حاسد حقود, وظلت الأخبار تتوالي علي أيوب قاسية مريرة.
لم يمت له ابن واحد, بل كل الأبناء وكل البنات, مرة واحدة!.. ريح شديدة (أثارها الشيطان)… وصدمت زوايا البيت الأربع, فسقط علي الغلمان وماتوا (أي 1:19). وكل أملاك أيوب ضاعت أيضا… البقر والأتن سقط عليها السبئيون وأخذوها, وضربوا الغلمان بحد السيف. والجمال أخذها الكلدانيون, وضربوا الغلمان بحد السيف. والغنم والرعاة, نزلت نار من السماء وأحرقت الكل (أي 1:14ـ19). واستطاع الشيطان ـ لما أخذ إذنا ـ أن يفعل كل ذلك.
يا للهول. حقا إن الشيطان ـ وإن كان قد فقد نقاوته ـ إلا أنه لم يفقد طبيعته كواحد من الملائكة المقتدرين قوة (مز 103:20) ينزل نارا من السماء, تحرق الغنم والغلمان, ويثير ريحا شديدة عبر القفر تصدم البيت فيسقط, ويموت كل الذين فيه. ويسخر السبئيين والكدانيين لتنفيذ مشيئته, فينهبون ما لغيرهم ويقتلون الغلمان ويخرب كل بيت أيوب. ولو كان أيوب شخصا عاديا لسقط ميتا أمام كل هذا..
أما أيوب فقد احتمل كل هذا ولم يجدف علي الله, بل قال عبارته المشهورة:
الرب أعطي, الرب أخذ, ليكن اسم الرب مباركا (أي 1:12).
(لم يقل السبئيون أخذوا ولا الكلدانيون أخذوا بل الرب أخذ!
إنه يتعامل مع الله وحده لا مع السبئيين ولا مع الكلدانيين. وكل ما يفعله الناس ضده لابد قد مر علي الله ضابط الكل. فإن كان الله قد سمح بأن يأخذوا كل ما له, فليكن اسم الرب مباركا, إنني لا أملك كل ما معي, إنما أنا مجرد وكيل علي ما أعطانيه الله. هو أعطي, وهو أخذ, بحكمة يعطي, وبحكمة يأخذ. أما أنا فماذا أقول:
عريانا خرجت من بطن أمي, وعريانا أعود إلي هناك.
ما كنت أملك شيئا من كل هذا حينما ولدت. وسوف أترك كل شيء حينما أغادر هذا العالم عريانا. الله أودعني وديعة, ثم سمح الله وديعته. ليكن اسم الرب مباركا, في كل هذا لم يخطئ أيوب, ولم ينسب إلي الله جهالة, (أي 1:22)… ولكن من هول الكارثة يقول الكتاب عن أيوب إنه:
مزق جبته, وجز شعر رأسه, وخر علي الأرض وسجد (أي 1:20)
مزق جبته لهذه الكارثة التي تمزق قلب أي إنسان: علي الأقل موت أبنائه السبعة وبناته الثلاث في يوم واحد. ولكنه سجد علي الأرض إجلالا للرب الذي أعطي وأخذ.. ولم يقل الكتاب إنه صرخ أو بكي, أو نعي أولاده…
ولكن قسوة الشيطان لم تقف عند حد ولم يكتف بهذا!
ولم يخجل من فشله في محاربته لأيوب البار. وعاد يقول للرب جلد بجلد. وكل ما للإنسان يعطيه لأجل نفسه. ولكن أبسط الآن يدك ومس عظمه ولحمه فإنه في وجهك يجدف عليك (أي2: 5,4).
قال هذا ردا علي قول الرب عن أيوب … إلي الآن هو متمسك بكماله, وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب.
إن الشيطان لا ييأس في محاربته. فمهما فشل, يعاود الكرة مرة أخري… والعجيب أن الله أعطاه فرصة أخري رغم مكابرته. وقال له عن أيوب ها هو في يدك, ولكن احفظ نفسه (أي 2:6). أي لا مانع من أن تمس جسده. ولكن لا تمس عقله ولا حياته. نفسه ليست في يدك.
وللمرة الثانية يضع الرب حدودا للشيطان في عمله.
وخرج الشيطان من لدن الرب, وبكل قسوة ضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلي هامته. فأخذ أيوب لنفسه شقفة ليحتك بها, وهو جالس في وسط الرماد (أي 2:8,7)… كانت التجربة قد بلغت قمتها, ولكنها لم تبلغ نهايتها وإذا بزوجته تسخر منه لأنه لا يزال محتفظا بكماله, وطلبت إليه أن يجدف علي الله ويموت. فأجابها بحكمة وصبر:
تتكلمين كلاما كإحدي الجاهلات. هل الخير نقبل من عند الله, والشر لا نقبل؟! (أي 2:10). وكلمة الشر هنا تعني المتاعب والضيقات. وكلمة الخير تعني الخيرات..
يقول الكتاب في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه (أي 2:10).