أريدك أولا أن تقرأ معي هذه القصة:
بالرغم من الطقس البارد والثلج المتساقط, كان يجلس هذا الصبي, خارج منزله الحقير, ولم يرتد في رجليه سوي حذاء رقيق, لا يصلح حتي لأيام الصيف. لقد كان يحاول بأقصي جهده ليفكر عما يقدر أن يقدمه لأمه بمناسبة عيد الميلاد, لكن من غير نتيجة, فقد حاول كثيرا, حتي لو استطاع أن يفكر في شيء ما, فليس بحوزته شيء من المال, فمنذ وفاة والده, وهم يعيشون في حالة فقر دائم, فكانت والدته تعمل بأقصي جهدها لأجل أولادها الخمسة. فلم يكن لها إلا دخل ضئيل, لكن تلك الأم بالرغم من فقرها, كانت تحب أولادها محبة بلا نهاية.
كان هذا الصبي حزينا للغاية, فلقد استطاع إخوته الثلاثة, إعداد هدية لأمه, أما هو وأخوه الصغير, فلم يستطيعا شراء أي شيء, واليوم هو آخر يوم قبل عيد الميلاد. مسح هذا الصبي دموعه, ثم أخذ يسير باتجاه المدينة, ليلقي نظرة أخيرة علي الأماكن المزينة والمحلات المليئة بالهدايا والألعاب. كان ينظر من خلال الواجهات, إلي كل ما في الداخل, وعيناه تبرقان, كان كل شيء جميلا للغاية, لكن لم يكن بمتناوله عمل أي شيء.
بدت الشمس تعلن عن مغيبها, فهم هذا الصبي بالعودة إلي المنزل, وهو يسير حزينا منكس الرأس.. وفجأة إذ به يري شيئا يلمع علي الأرض, اندفع هذا الصبي مسرعا, وإذ به يلتقط 10 قروش من علي الأرض.. ملأ الفرح قلبه, وإذ به يشعر وكأنه يملك كنزا عظيما, ولم يعد يبالي بالبرد, إذ كان في حوزته عشرة قروش..
دخل أحد المحلات, عله يستطيع شراء شئ ما, لكن يا لخيبة الأمل, فقد أعلمه البائع, بأنه لن يستطيع شراء أي شيء بـ10 قروش, دخل هذا الصبي محلا آخر لبيع الورود, كان هناك العديد من الزبائن, فانتظر دوره.. بعد بضع دقائق, سأله البائع عما يريد.. قدم هذا الصبي إلي البائع الـ10قروش التي في حوزته, ثم سأل إن كان بإمكانه شراء ورة واحدة لأمه بمناسبة عيد الميلاد. نظر صاحب المحل إلي هذا الولد الصغير مليا, ثم أجابه: انتظرني قليلا.. سأري عما باستطاعتي عمله.. دخل البائع إلي الغرفة الداخلية, ثم بعد قليل عاد وهو يحمل في يديه اثنتي عشرة وردة حمراء, لم ير هذا الصبي نظيرها في الجمال من قبل, ثم أخذ صاحب المحل, يضع بجانبها الزينة وغيرها, ثم وضعهما بكل عناية في علبة بيضاء, وقدمهما إلي ذلك الصبي, وقال: 10 قروش من فضلك أيها الشاب. هل يعقل ما يسمع. لقد قال له البائع السابق.. لن تستطيع شراء أي شئ بـ10قروش.. فهل يعقل ما يسمعه.. شعر البائع بتردد الولد فقال له: أنت تريد أن تشتري ورودا بـ10قروش, أليس كذلك؟ فإليك هذه الورود بـ10 قروش, فهل تريدها.. بكل سرور أجاب الولد, معطيا كل ما لديه للبائع.. فتح البائع الباب للصبي, ثم ودعه قائلا: عيد ميلاد سعيد يا ابني.
عاد البائع إلي منزله, وأخبر زوجته بالأمر العجيب الذي حصل معه في ذلك اليوم, فقال لها: في هذا اليوم وبينما أحضر الورود.. جاءني صوت يقول اختر 12 وردة حمراء من أفضل الورود التي لديك, وضعها جانبا.. لهدية خاصة.. لم أدر معني هذا الصوت, لكنني شعرت بقرارة نفسي بأنه ينبغي علي أن أطيعه, وقبل أن أغلق المحل, جاءني صبي صغير تبدو عليه علامات الفقر والعوز, راغبا أن يشتري لأمه وردة واحدة, ومقدما لي كل ما يملك 10 قروش.. وأنا إذ نظرت إليه, ذكرت نفسي, كيف عندما كنت في سنه, كيف لم أملك أي شئ لأقدمه لأمي في عيد الميلاد, وذات مرة صنع معي إنسان لم أعرفه من قبل معروفا.. لم أنسه إلي هذا اليوم.. امتلأت عينا الرجل وزوجته بالدموع, ونظرا إلي بعض, وشكرا الله.
* دعنا الآن نسرد سويا كيف نعطي من خلال تأملنا في القصة السابقة:
1- بالمحبة:
أتري كيف كان حب هذا الولد لأمه.. لابد أن تكون المحبة هي الدافع الأول وراء صدق المشاعر التي نقدم بها عبادتنا وعطايانا لله وللآخرين, وكما قال سفر النشيد: إن أعطي الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة, تحتقر احتقارا (نش8:7).
فأنت لا تقدم مدفوعا بشعور الواجب أو الخجل أو الاضطرار, ولا حبا في الكرامة والتقدير, أو طلبا للإعلان أو المديح.. إنما من قلب فياض بالمحبة.
2- بسخاء:
طلب الولد الصغير وردة واحدة قيمتها عشرة قروش, فأعطاه البائع اثنتي عشرة وردة من أجمل ما يكون.. هذا هو العطاء الحقيقي بدون حساب للماديات, لأن الله ينظر ويعرف والكتاب يقول: المعطي فبسخاء (رو12:8), لأننا بذلك نتمثل بـالله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير (يع1:5). والعطاء هنا كالزرع من يزرع بالشح فبالشح أيضا يحصد (2كو9:6).
3- بفرح وسرور:
أتري كيف كان الولد الصغير والبائع سعيدين بعطائهما.. يقول الكتاب المقدس: المعطي المسرور يحبه الله (2كو9:7), والوصية تقول: من سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين (مت5:41). (والمقصود بالميل الثاني أنك ذهبت راضيا حرا).
* بقي لنا عزيزي أن نتأمل في صفات ما نقدمه من عطايا:
1- أن تكون أفضل ما عندنا:
إن العطاء هو مشاعر قبل أي شئ ومشاعرنا نعبر عنها بأفضل ما عندنا. إن هابيل الصديق قدم أفضل ما عنده من الذبائح, بينما أخوه قايين اختار تقدمة من ثمار الأرض دون أن يدقق فيها (تك4:4-5) إن هذا المبدأ ينطبق في حياتنا العملية بأمثلة كثيرة منها:
- اختيار الوقت الأفضل المناسب للصلاة, كالصباح الباكر.
- اختيار الذهن النشط المناسب لقراءة الكتاب المقدس.
- تقديم النقود في حالة جيدة, وليس القديم أو المستهلك.
- تقديم التسابيح والألحان بأفضل ما عندنا من أنغام وأصوات.
2- أن تكون في الخفاء:
وليس هناك أبلغ من قول الكتاب: لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك (مت6:3) ويعتبر هذا مبدأ مشتركا في كل أركان العبادة.. أما إن كان العطاء طلبا للدعاية أو لنوال مركز أو لمدح الذات, فإنه يفقد قيمته ويصير دينونة.
3- أن تكون ذا نفع لمن تعطي له:
فليست العبرة أن تعطي وحسب, إنما في احتياج الآخرين لهذا العطاء.
أتركك الآن مع بعض الآيات عن العطاء:
- منك الجميع ومن يدك وأعطيناك (1أخ29:14).
- من يرحم الفير يقرض الرب, وعن معروفه يجازيه (أم19:17).
- هاتوا العشور.. وجربوني (ملا3:10).
- أعطوا تعطوا (لو6:38).
- ليعطك الرب حسب قلبك (مز20:4).