أنطون سيدهم .. ومشوار وطني
أنطون سيدهم .. والسياسة الداخلية
قرأت كتاب الأخ العزيز الأستاذ الدكتور رشدي سعيد عن نهر النيل, إنه كتاب قيم دسم, كله ينضح بمعلومات مهمة بناء علي دراسات علمية دقيقة مستفيضة, استلزم القيام بها وجمعها سنين طوالا ومجهودات وأبحاثا جبارة, لقد ألف الدكتور رشدي كتابه بالإنجليزية لصفوة العلماء والمتخصصين ولذلك كانت لفته علمية خالصة مملوءة بالاصطلاحات التي يصعب علي القارئ العادي فهمها أو استساغتها, ولذلك كانت ترجمة سيادته له إلي العربية وبلغة القارئ العادي مهمة صعبة ولا يقدر عليها إلا العالم المتمكن من علمه ولغته والقادر علي شرح مراده بلغة سهلة الفهم علي كل من يقرؤه, وعلي ذلك أخذ هذا الكتاب القيم من المؤلف جهدا مضاعفا لتأليف هذا المرجع القيم ثم لترجمته هذه الترجمة الواضحة للجميع.
اشتمل الكتاب علي كل المعلومات التي يجب أن يعرفها كل مصري عن نهر النيل العظيم الذي يأتي لمصر والمصريين بالخيرات والبركات والحياة, تكلم باستفاضة عن نشأة النهر وتطوره منذ 6 ملايين سنة عارضا تاريخ النهر متغاضيا عن الأدلة التي استنتج منها هذا التاريخ والتي يمكن للباحث أن يرجع إلي هوامش الكتاب للتعرف علي الكثير من المراجع التي استنتج منها سيادته التواريخ والبيانات المختلفة, وقد تميزت هذه الملايين الستة من السنين بتطورات مناخية كبيرة أثرت علي العالم كله وغيرت الكثير من وجه الكرة الأرضية, ففي هذه الفترة امتدت ثم انكمشت مثالج القطبين والجبال وغطت الثلوج أغلب سطح الأرض ثم تراجعت, وتكرر ذلك عدة مرات, وصاحب ذلك تغيرات كبيرة بالنسبة للجو والأمطار ومنسوب البحار, كما أنه حدثت في هذه الفترة الطويلة حركات أرضية هائلة ونشاط بركاني كبير أثر بشكل أساسي علي منطقة منابع النيل, فتغيرت مجاري الأنهار التي كانت تنبع من الهضبة الاستوائية والمرتفعات الأثيوبية التي كانت توجه مياهها ناحية حوض نهر الأنجونا للمحيط الأطلنطي, أو إلي البحر الأحمر والمحيط الهندي علي التوالي فتحولت إلي اتجاه البحر المتوسط مكونة نهر النيل العظيم, كما شرح, باستفاضة, تطورات النهر ومجهودات المصريين لترويضه والاستفادة من مياهه.
قدم سيادته بيانات دقيقة عن مياه النهر منذ أقدم العصور وتطورها حتي انتهت منذ ستة آلاف سنة إلي إيقاع منتظم في الارتفاع والهبوط طوال العام سنة بعد أخري, كما بين بإحصائات دقيقة لسنوات ارتفاع مستوي الفيضان وشحه في المياه التي يجلبها النهر منذ بدء التاريخ, وأرجع سنوات التدهور السياسي في مصر في عصور الأسرات إلي التدهور الاقتصادي بسبب فترات انخفاض الفيضانات وقلة المياه المتدفقة لمصر وغير الكافية لزراعة أراضيها وما تسببه من مجاعات قاسية وفقر شديد للبلاد فقد كانت أحوال مصر تصح في الفترات التي يكون الفيضان فيها عاليا ومناسبا فتزدهر أحوالها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا أما في عهود الفيضانات الواطية فإن حالة البلاد تسوء اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وتتدهور حالة مصر عامة ولذلك قدس المصريون فيضان النيل والذي يكون في أوجه في أواخر سبتمبر وأوائل أكتوبر من كل سنة. كما تكلم عن كميات المياه التي تأتي إلي النهر سواء من أفريقيا الوسطي أو من هضبة الحبشة ونسبتها إلي مياه الفيضان, وتتبع فيضان النيل منذ أوائل تاريخ الأسرات وما سببته الفيضانات الشحيحة من انهيار مصر في جميع مرافقها.
ثم استعرض سيادته أنظمة الري في مصر منذ فجر التاريخ فمن ري الحياض وهو إدخال المياه عند ارتفاع مياه النيل من 20 أغسطس من كل عام إلي أحواض تتراوح مساحتها بين 2000 فدان في الصعيد إلي 20000 فدان في الدلتا وتحد هذه الأحواض جسور ترابية, وتغذي هذه الأحواض بواسطة قنوات يحفر مأخذها علي منسوب يتوسط بين أرض الحوض ومنسوب الحد الأدني للنيل, ويملأ الحوض ثم تقفل القناة بعد أن يصل عمق المياه بالحوض الي ما بين متر وربع ومتر ونصف, وكانت المياه تبقي في الحوض بين 40 و60 يوما, وقد استمر ري الحياض آلاف السنين حتي بدأ بناء الخزانات في القرن التاسع عشر والتي أدت إلي تحويل الوجه البحري إلي الري الدائم وزراعة ثلاثة محاصيل في السنة, كما أدي بناء قناطر أسيوط وخزان أسيوط وخزان أسوان إلي زراعة شمال الصعيد بنظام الري الدائم وكذلك أدي بناء السد العالي إلي تحويل زراعة الحياض في الوجه القبلي الأعلي إلي الري الدائم, وبذلك انتهي نظام ري الحياض في مصر.
كما تكلم عن مشروع السد العالي وفوائده, وكذلك الآثار الجانبية السيئة له, كما تكلم بالتفصيل عن مستقبل استخدامات مياه النيل والاتفاقيات الخاصة بها بين مصر والسودان, والاتفاقيات الراهنة لتوزيع مياه النيل, وكذا القانون الدولي ومياه الأنهار المشتركة, ثم شرح باستفاضة استخدام دول حوض النيل لمياهه من بدء النهر في أواسط أفريقيا وهضبة الحبشة ثم السودان ومصر ومشروعاتها المستقبلية وتأثير ذلك علي ما يصل إلي مصر من مياه النهر, واقتراحاته في تنظيم توزيع مياهه بين دول الحوض المتعددة, ثم تطرق إلي المشروعات المستقبلية لبناء الخزانات في الأماكن المختلفة من النهر حتي تضمن مصر كمية المياه اللازمة لها في مستقبل الأيام وزيادة المساحة الزراعية بها.
إنه حقا كتاب قيم ومرجع مهم للنهر الذي نعيش علي جوانبه ونشرب من مياهه ونروي أراضينا منه, والذي لانتظامه أهمية قصوي لمستقبل البلاد وأهلها, لذلك يجب أن يقرأه كل مصري ويتركه لأولاده كمرجع مهم لدراسته.