حياة الرضا
ولكن شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان2كو2:14
معوقات حياة الرضا:
السؤال الهام الآن: ما هي معوقات حياة الرضا؟ وما الذي يجعل الإنسان غير راض؟ وما الذي يجعل حياته غير مقبولة أمامه؟.. أو ما الذي يجعل الإنسان لايحب حياته؟
من أقوال السيد المسيح: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك,ومن كل فكرك,هذه هي الوصية الأولي والعظمي,والثانية مثلها:تحب قريبك كنفسكمت22:37-39 ولكن ما المقصود هنا بكلمة:تحب نفسك؟!
إن المعني المقصود هنا, ليست هي الأنانية,بلالقبول بمعني أن تقبل نفسك,وتقبل ذاتك,وكما يقول مار إسحق السرياني:
اصطلح مع نفسك تصطلح معك السماء والأرض.
فقد يوجد إنسان يكون عدوا لنفسه,ومتذمرا علي نفسه,وعلي أيامه, وعلي حياته, وعلي اختياراته..الخ,ويكون نتيجة ذلك أن هذا الإنسان يعيش تائها في هذا العالم,ويتخبط من مكان إلي مكان, ومن شخص إلي شخص ولا يستطيع أن يحقق نجاحا في حياته,وهناك إنسان آخر يكون راضيا عن حياته,ويبذل كل ما في وسعه لينجح في طريقه,ويكلل الله سعيه بالنجاح,وكما يقول الكتاب:تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبكمز37:4.
فما الذي يجعل الإنسان لا يستطيع أن يعيش حياة الرضا؟ وما هو المانع لذلك؟! قبل أن نجيب علي هذا السؤال علينا أن نتفق علي مبدأ هام جدا وهو أن الشيطان عندما يحارب الإنسان يقدم له الخطايا الصغيرة والتي قد تبدو تافهة أمامه أولا, ثم يأتي إليه بعد ذلك بالخطايا الكبيرة.
فالشيطان عندما يبدأ محاربته للإنسان يبدأ بمحاولة إيقاعه في خطية صغيرة وتافهة,ثم يأتي له بأخري صغيرة أيضا, وهكذا,ثم يبدأ بعد ذلك يوقعه في الخطايا الكبيرة فالخطايا الصغيرة تؤدي إلي الخطايا الكبيرة,وكما قال القديس مرقس الناسك: الشيطان يقدم لنا خطايا صغيرة تبدو كأنها تافهة في أعيننا,لأنه بغير هذا لايقدر أن يقودنا إلي الخطايا الكبيرة.
إن الذي لا يجعل الإنسان يعيش حياة الرضا, علي أي مستوي من المستويات عدة أسباب منها:
أولا: ذات الإنسان
فهو لايري في الوجود غير نفسه ومكانته,وبالتالي لايستطيع أن يحب الآخرين,ولا أن يشعر بحبهم, لذلك لايستطيع أن يشكر الله علي أي شيء فهو إنسان يعيش في الأنانية.
والقديس بولس الرسول يقول: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذأع20:35 وأحيانا يكتبون هذه العبارة علي صناديق العطاء في الكنائس,ولكن ليس المقصود هنا هو مجرد العطاء المادي فقط, ولكن المقصود هو روح العطاء بكل أشكاله وأنواعه,فقد يكون هذا العطاء هو مجرد ابتسامة واحدة,تعطيها لشخص يكون في احتياج إليها.
إن الشخص الذي يعيش في الذات,وإحساس السلطة وإنه متسلط وحاكم,وآمر…الخ مثل أب في بيته,أو خادم في خدمته, أو كاهن في كنيسة,يدمره هذا الإحساس,ولا يستطيع أن يشعر بحياة الرضا بمعني أن الذات تصنع جدارا يمنعه من الشعور بالرضا, ويكون هذا الإنسان متذمرا بشكل دائم في حياته.
وأذكر علي سبيل المثال هذه القصة الواقعية التي حدثت معي, فقد تقابلت مع إنسان كان يخدم منذ عدة سنين في خدمة معينة,ولاحظت أنه متذمر علي حالته,فسألته ماذا تفعل وما هي خدمتك؟ فكانت إجابته قاسية جدا, حيث قال: إن المكان الذي أخدم به لايستحق خدمتي! فإذا كانت رؤيته بهذه الصورة الصعبة,فكيف يشكر الله, وكيف يعيش حياة الرضا؟!
إن الإنسان الذي يري كل من حوله, من إخوته أو الذي يخدمون معه في أي خدمة أو عمل,أنهم أقل منه وهو الأعظم,وهو الأسمي, وهو الذي لا مثيل له, فذات هذا الإنسان تصنع جدارا بينه وبين الله ويعيش في قوقعة ذاته, ولايستطيع أن يري آخر غير نفسه,ويكون نتيجة لذلك أنه لا يستطيع أن يعرف حياة الرضا ولا أن يستمتع بحياته.
ثانيا: الطمع:
الأمر الثاني الذي يمنع الإنسان من حياة الرضا هو الطمع, بمعني الطمع في أمور مادية, أو أمور معنوية أو الرغبات بصفة عامة, أو الشهوات,ففي البرية والحياة الرهبانية المصرية, يقول الآباء: السير في البراري يميت من النفس الشهوات.
فالإنسان الذي يسير في البرية,لا يري حوله غير الرمال, فما الذي يمكن أن يشتهيه؟! ولكن عندما يسير هذا الإنسان في أحد الشوارع الممتلئة من المحال التجارية,فإنه يري الكثير من الأشياء المعروضة,والتي تثير في داخله الكثير من الشهوات,وقد تدفعه للرغبة في اقتناء هذه الأشياء.
فالإنسان الذي يعيش وقلبه ممتلئ من رغبات لاتنتهي وشهوات لا تحصي, لايستطيع أن يعيش في حياة الرضا, ومن يذهب إلي المحاكم يري أعدادا ضخمة من القضايا المرفوعة,وحينئذ يدرك أن عددا كبيرا جدا من الناس في حالة من الطمع, ومن الممكن أن يكون بعض هؤلاء الأشخاص إخوة,وقد تناولوا طعامهم من طبق واحد! ولكنه الطمع هو الذي جعلهم يفعلون ذلك.
وهناك قصة روسية مشهورة, عن إنسان ذهب إلي أمير بلدة, وطلب منه أن يعطيه مساحة من الأرض, فسأله الأمير عن المساحة التي يريدها فأجابه المساحة التي تسمح بها, فقال له الأمير:أمامك الأرض كلها فيمكنك أن تعبر فيها بحصانك,وكل المسافة التي ستقطعها سأعطيها لك. بشرط أن تعود قبل غروب الشمس.
فوجد الرجل أن هذا عرض ممتاز, وفعلا بدأ جولته بحصانه في الأرض,وكلما فكر في الرجوع لكي يصل قبل غروب الشمس,يقول لنفسه يمكن أن أسير مسافة أخري ثم أعود,وذلك بسبب طمعه,وحتي يحقق أكبر مساحة ممكنة من الأرض.
ثم بدأ رحلة العودة بأقصي سرعة وطاقة,وفعلا استطاع أن يعود قبل غروب الشمس, ولكنه بمجرد وصوله وقع من فوق حصانه ومات, وذلك بسبب الإجهاد الشديد الذي تعرض له حتي يتمكن من الرجوع من كل هذه المسافة قبل غروب الشمس, وللأسف طمعه كان سببا في ضياعه! في حين أنه لو كان قد اكتفي بمساحة صغيرة كان ذلك أفضل له, ولكن ماذا نقول؟ إنه الطمع! فاحذر من الطمع,واحذر في تربية أولادك من الطمع,وليحذر الإخوة من الطمع, فالطمع يضيع ما معك, وما كنت ستحصل عليه, وأيضا ستفقد النعمة التي كان سيعطيها الله لك. فاحذر وتعلم من قول الرب: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذأع 20:35.
ثالثا: الإنسان الملتوي
إن الأمر الثالث الذي يمنع الإنسان من حياة الرضا هو الإنسان الملتوي أو الإنسان الغامض,فمثلا هناك إنسان عندما تتقابل معه,تشعر وكأنه علامة استفهام كبيرة,وإنسان آخر تشعر في حديثه أن كلامه كلام غير مستقيم وغير مضبوط,ولا يوجد به أي نوع من الصراحة والوضوح,وقد تشعر في جلوسك معه بعدم الارتياح,وكما نقول في اللغة الشعبية:هذا الكلام مش راكب علي بعضه.
فالقديس أغسطينوس نشأ في بيت مستور,وتعلم الخطابة,ولكنه كان غير راض عن نفسه, وكان يهزأ بدموع أمه, وعندما صار شابا يافعا ترك بلده في الجزائر وذهب إلي مدينة ميلانو في إيطاليا,ليبحث عن الخطابة,فوجد ضالته في القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو وأعجب به كخطيب.
ولكن شاءت نعمة الله, أن تقع في يد القديس أغسيطنوس قصة حياة القديس العظيم الأنبا أنطونيوس أب جميع الرهبان,والتي كتبها القديس الأنبا أثناسيوس في أوروبا أثناء نفيه,وكأن النعمة حاصرت هذا الرجل فدموع أمه من ناحية,وعظات القديس أمبروسيوس من ناحية,وحياة القديس الأنبا أنطونيوس من ناحية أخري,وهنا بدأ القديس أغسيطنوس يعرف حياة الرضا.
ونتعرف علي حياة الرضا هذه كما سجلها لنا في كتابه: اعترافات أغسطينوس لقد كان القديس أغسطينوس متذمرا في حياته الأولي,ولكنه عندما تاب صار راضيا,فحياة التذمر مرتبطة بالخطية ومن أهم ملامح وعلامات حياة التوبة هي حياة الرضا.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن الإنسان الملتوي أو القليل الإيمان,أو الإنسان الذي يعيش في تعال, أو في جمود فكري,أو الشخص الذي له قدر كبير من العناد,أو حب التملك,أو المشاعر المريضة,لا يستطيع أن يحيا في حياة الرضا.