يمكن تصنيف رواية “السمسار” للباحث والروائى عمرو كمال حموده بأنها تنتمى إلى ما يُعرف بالأدب السياسى، فهى ليست مجرد رواية ممتعة عن عالم السلطة والمال والسياسة والمافيا العابرة للحدود، ولكنها، وهذا هو الأهم، تعد تأريخيا وكشفا للجوانب المعتمة لحقبة طويلة من التاريخ المصرى المعاصر. وبهذا الحس السياسى والتاريخى يقدم لنا الكاتب عملا أدبيا يأخذنا فى رحلة داخل منطقة معتمة لا نراها إلا من خلال شخصية محورية (منتصر أو مونتى) دفعها الطموح إلى السير فى دروب ومنحنيات هذا العالم الأكثر تأثيرا والأكثر غموضا سعيا نحو التسلق والارتقاء. ولا شك أنه من الصعب تناول هذا العمل بأبعاده الأدبية والسياسية والتاريخية فى مقال قصير، ولكن يمكن، على الأقل، إعطاء بعض الإشارات التى أتصور، كقارئ، أنها ذات دلالة، وخاصة من منظور السرد:
فمن ناحية أولى، يمكن القول أن عملية السرد قد تم صياغتها بطريقة تجعل القارئ أشبه بمتفرج يشاهد مسرحية بطلها شخص وحيد وأوحد تدور حوله كل الشخوص والأحداث. وعلى خشبة المسرح الروائى تلعب الإضاءة دورا محوريا فى الكشف والاخفاء، فلا يمكن رؤية إلا ما يدخل دائرة الضوء المسلطة على الشخصية المحورية بلا انقطاع. فالقارئ من موقع المشاهد، لا يرى إلا صورا تتحرك وتختفى، فكل الشخصيات تظل غير مرئية إلا عندما تلتقى بالشخصية المحورية، ثم تتوارى فى العتمة. لقد استطاع الكاتب أن يجعل القارئ أسير شخصيته المحورية، لا يرى إلا ماتراه هذه الشخصية ولن يعرف إلا ما تقوله، وليس هناك مساحات للتأويل أو الاستعادة، حتى ماضيه لا نتذكره إلا من خلال أحداث تأتى إلى دائرة الضوء. وربما يكون غلاف الرواية أفضل تعبير مرئى عن هذه الحالة، فقد تم تصميمه لكى يتجاور الضوء والعتمة، المرئى واللامرئى، حيث تكون العتمة سيدة الموقف فى نهاية الأمر.
ومن ناحية ثانية، تبدأ الرواية بدلالات واضحة حول مسارها، حيث تبدأ بالتحضير لرحلة مهنية لبطل الرواية، ولكنها تكشف الملامح الأولى والعفوية للنزوع نحو السمسرة والاتجار فى السوق السوداء. ولكن الأهم أن الكاتب جعل أول حوار بين منتصر وشخص آخر يتم داخل طائرة على وشك الإقلاع، وأتصور أن هذا المشهد له دلالة محورية فى هذه الرواية، فالسمسار (منتصر) الذى نصحبه أو يصحبنا فى هذه الرواية هو شخصية عابرة للحدود الجغرافية والسياسية والأخلاقية. إنه نقطة إلتقاء مصالح تسعى إليه ويسعى إليها. وفى هذا العالم المتجاوز للحدود يبدو أن التواصل فيه يتم بشكل قدرى، فهناك دائما صلات وروابط. فعالم المال والسياسة أشبه بناد كونى يختار أعضاءه كما تختار النوادى أعضاءها. إن الأشياء قريبة بقدر ما هى بعيدة، وهشة بقدر ما هى قوية، وهكذا لا يكون ثمة فرق بين الصدق والخيانة، وبين المتعة والملل، وما بين الاعتياد والاندهاش.
ومن ناحية ثالثة، لا يمكن للقارئ أن يتجاهل الحضور الأنثوى فى هذه الرواية، فحضور المرأة فى هذه العمل يأتى ضمن خريطة ترسم حدود المشاعر واللذة والمنفعة والسيطرة، فعلى هامش عالم المال والسياسة تكون المشاعر الإنسانية موجودة هناك فى العتمة، أما داخل دائرة الضوء فثمة حضور أنثوى إيروتيكى هو جزء لا يتجزا من هذا العالم الذكورى الباحث عن الرغبة والامتلاك والمصلحة، وهكذا تكون أجساد النساء ساحة للاستعراض والسمسرة الذكورية. وبين العالمين توجد الزوجة التى تضيع عندها المشاعر كما تضيع الرغبة، وتصبح الموضوع الوحيد لعنف السمسار خلال مجمل الرواية. وفوق هذا وذاك توجد علاقة خاصة هى علاقة منتصر بجارته اليهودية التى تسلك مسارا مماثلا بعد وصولها لإسرائيل، وعلاقة منتصر بجارته اليهودية تبدأ بالمشاعر فى القاهرة، وتنتهى بالمصالح فى إسرائيل، إلى أن تصبح هذه الجارة ملاذه الأخير بعد إندلاع الثورة فى مصر.
ويبقى أن نتحدث عن البعد الجمالى الوحيد الذى أراد الكاتب للقارئ أن يراه، ألا وهو جغرافية المدن، فإذا كانت القاهرة حاضرة بقوة فى وصف المطاعم والمقاهى والشوارع، فإن الرواية تأخذنا مع بطلها إلى العديد من المدن والعواصم، ولكن كلما ارتقى منتصر كلما حلت العتمة وخاصة فى الإمكان الأكثر إبهارا والتى لا يراها القارئ ولن يراها غالبا. وينتهى الأمر بأن ينقلنا الكاتب مع البطل من شوارع القاهرة التاريخية، إلى شرم االشيخ لتنتهى الحكاية.
لا شك، أن رواية السمسار ستثير لدى قارئها تساؤلات عديدة، فهناك تساؤلات سياسية وأخرى أدبية وثالثة أخلاقية، ولكن ربما تكون النتيجة التى يخلص إليها القارئ مفادها أنه رغم كل الأضواء المبهرة لعالم المال والسياسة، فإن العتمة هى سمته، وفى العتمة يكون كل شئ مباح ومستباح.