نعرف الأشياء بالوصف والتعريف، وأحيانا ما تتعدد سبل وصف وتعريف الأشياء إما لأننا نراها من زوايا مختلفة، وإما لأن من مصلحتنا أن نصفها أو نعرفها بهذه الطريقة أو تلك. وينطبق هذا الوضع على وصف وتعريف حقوق الإنسان، فهى توُصف بطرق متعددة بوصفها ثقافة Culture، أو قيمValues، أو مبادئ Principles، أو معايير Standards. وعادة ما يتم استخدام هذه التوصيفات بدون تفرقة على الرغم من أن لكل منها معناه ودلالاته التى تختلف من مفهوم لآخر. وهذا الاختلاف له تأثيره المباشر على تلقى فكرة حقوق الإنسان، فثمة فرق بين استقابلها كثقافة وقيم، وبين استقابلها كمبادئ ومعايير.
فعندما نصف حقوق الإنسان بأنها ثقافة، فإننا فى واقع الأمر نعرفهابالمصطلح الأكثر التباسا، أى الثقافة. فمن المعروف أن تعريف الثقافة من الأمور المختلف عليها فى مجال العلوم الاجتماعية، لأنها مفهوم فضفاض يتسع ليشمل كل شئ تقريبا، كما أن الثقافة ليست مجرد مفهوم ولكن مجال للصراع القيمى والأخلاقى والأيديولوجى. لا شك أن حقوق الإنسان منتج ثقافى شأنها شأن غيرها من المنتجات البشرية كالعلوم والفنون والتشريعات والأيديولوجيات والمعتقدات، فكلها منتجات ثقافية ولكن لكل منها خصوصيته. وفى الواقع أن استخدام تعبير “ثقافة حقوق الإنسان” يجعل حقوق الإنسان عرضة لتحمل إلتباسات مفهوم “الثقافة”، فالبعض، بحسن أوبسوء نية، ينظر إلى هذه الحقوق بوصفها منظومة ثقافية أو أيديولوجية، وهو ما يسهل وضعها فى ساحة الصراع الثقافى والأيديولوجى، فى حين أن حقوق الإنسان تم صياغتها بطريقة تجعلها فى منأى عن هذا الصراع بل بطريقة تضمن التنوع والتعدد الثقافى.
وبالمثل عندما نصف حقوق الإنسان بأنها قيم، فإننا نظل داخل دائرة الإلتباس، لأن القيم هى تعبيرات ثقافية تختلف باختلاف الزمان والمكان حتى داخل المجتمع الواحد، وهى غالبا ما تكون مشبعة بالأحكام. فالقيم وفق المعجم الفلسفى لمجمع اللغة العربية: “صفة يخلعها العقل على الأقوال والأفعال والأشياء، طبقا للظروف والملابسات، وبالتالى تختلف باختلاف من يصدر الحكم… والقيمة بهذا المعنى تعنى الاهتمام لشئ أو استحسانه أو الميل إليه والرغبة فيه، ونحو هذا مما يوحى بأن القيمة ذات طابع شخصى ذاتى خلو من الموضوعية، وتكون وسيلة لتحقيق غاية”. ولذا فإن الوفاء بمقتضيات قيمة كبرى كالعدالة يتطلب من القائمين عليها نوعا من التجرد من المعتقدات والتحيزات الشخصية حتى تكون الأحكام موضوعية. وبهذا المعنى فإن القيم (وخاصة القيم الأخلاقية والجمالية) مشبعة بالدلالات والأحكام والتى قد تجعلها إيجابية فى نظر البعض وسلبية فى نظر آخرين، أو أن تجعلها إيجابية فى مرحلة ما وغير ذلك فى مرحلة أخرى. وفى واقع الأمر أن حقوق الإنسان، التى تم الاتفاق عليها من قبل ممثلين عن ثقافات مختلفة، لا تشكل فى حد ذاتها قيما، ولكنها (أى حقوق الإنسان) وُجدت لكى تدعم وتعزز تفسيرات وانحيازات إيجابية لقيم موجودة فى الثقافات المختلفة فى مواجهة تفسيرات وانحيازات تتعارض مع معايير حقوق الإنسان. عندما نقول أن حقوق الإنسان تعزز قيم العدالة والمساواة، فهذا لا يعنى أنها مصدر أو سبب وجود هذه القيم، فهى موجودة بالفعل ولكن بتفسيرات وتأويلات متعددة حسب المعتقدات والفلسفات والأيديولوجيات المختلفة، أما إسهام حقوق الإنسان فيأتى من أنها تضع معايير عامة لإضفاء معنى معيارى كونى على هذه القيم، أى تحدد ما الذى تعنيه قيمة العدالة والمساواة من منظور حقوق الإنسان، لتقويم الخلل فى التفسيرات والممارسات. فمثلا عندما تكون معايير حقوق الإنسان فى المساواة عامة لا تستثنى أحدا، فإن المساواة وفق بعض المعتقدات والمذاهب قد تنطوى على استثناءات بسبب الجنس أو اللون أو العرق، وهنا تكون مهمة حقوق الإنسان تقويم الوضع وليس ابتداع قيما غير موجودة .
ويبقى أن تعريف حقوق الإنسان بأنها مبادىء ومعايير هو الأقرب إلى الدقة، وهذا هو الوصف المتبع فى المواثيق الدولية. فحقوق الإنسان مبادئ عامة ذات طابع قانونى بالأساس صالحة لأن تكون معايير عامة كونية. ولاشك أن الشرعية التى تستقيها حقوق الإنسان من الإجماع الدولى يجعل منها بمثابة مبادئ مؤسِسة، وبالتالى معايير لتقويم التشريعات والسياسات المحلية، وهذا ما يجعل منها مبادئ ومعايير فى آن واحد. وفى واقع الأمر أن حقوق الإنسان ليست استثناء من مبادئ ومعايير عالمية أخرى تنظم كافة المجالات دوليا وتلتزم بها الأنظمة المحلية فى العديد من المجالات بداية من الصناعات والطيران والبحار والمعاملات التجارية والمالية وحتى الألعاب الرياضية. إننا نعيش فى عالم تحكمه معايير عالمية وهى التى تضمن استعمال الأشياء وتداولها وجودتها. وهذه العملية ليست سوى عملية لتوحيد القياس Standardization وضمان الجودة Quality، ولا تعنى مواجهات بين ثقافات.
وبالطبع، فإن الأمور فى الواقع ليست بهذه البساطة، لأن مبادئ ومعايير حقوق الإنسان، ليست مثل إجراءات الأمان فى الطيران، فهى مرتبطة بتوازنات قوى ومصالح وتصورات عن العالم متباينة، وبالتالى فإن القبول بها يتطلب خوض صراعات ومواجهة تحديات ثقافية وسياسية واجتماعية. فالشخص المشبع بقيم الثقافة الأبوية والذكورية لن يقبل تطبيق مبدأ المساواة بين الرجال والنساء بالطريقة ذاتها التى يقبل بها ربط حزام الأمان فى مقعد الطائرة. وهنا تبرز إشكالية التناقض بين عالمية حقوق الإنسان والخصوصيات الثقافية، وهى إشكالية يمكن حلها، نظريا على الأقل، إذا اعتبرنا أن حقوق الإنسان مبادئ ومعايير بالمعنى متفق عليها لحفظ الكرامة الإنسانية، وليست أدوات فى حلبة الصراع الثقافى والقيمى.