تناولنا فى المقالين السابقين مشكلة تعريف السعادة وتحديدا فى الفسلفة وعلم النفس بوصفها المجالين الحيويين لموضوع السعادة، وقد تبين أن هناك صعوبات فعلية فى إيجاد تعريف محدد وواضع للسعادة. ولأن الأمر كذلك، فثمة صعوبات تحيط بقياس السعادة سواء بالمعنى الأخلاقى المثالى والمجرد، أو بالمعنى النفسى الذاتى والنسبى. فإذا افترضنا أن المفهوم الأخلاقى يتسم بالمثالية والتجريد، فإن المثالى والمجرد عادة ما يكون غير قابل للقياس لا بالمعنى الكمى ولا بالمعنى الكيفى. كما أن ربط السعادة بالخير والفضيلة، يعقد الأمور لأنهما من المفاهيم المشبعة بالنسبية، لأنها معناها يختلف باختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية والتاريخية وبالتالى يصعب أن يكون لهما طابعا معياريا. فضلا عن أن المنظور الأخلاقى يستعبد الأبعاد الذاتية الجسدية (مبدأ اللذة) من دائرة السعادة “السامية” عندما يتم النظر إلى الرغبات الذاتية على أنها رذائل وخروقات بالمعنى الأخلاقى.
وحتى من المنظور النفسى، الذى ينطلق من نسبية الظاهرة، فإن قياس سعادة الأفراد ليس بالأمر السهل، وخاصة وأن المقاربة العلمية تقتضى قياس الظواهر كميا وكيفيا وفق معايير منضبطة علميا وقابلة للتعميم. وفى هذا الصدد يقول مايكل أرجايل فى كتابه “سيكولوجية السعادة”: “بينما تركز بعض المقاييس على الجانب الانفعالى للسعادة –أى الشعور باعتدال المزاج- توجه مقاييس أخرى عنايتها إلى الجانب المعرفى التأملى أو التعبير عن الرضا عن الحياة. فالناس يصفون السعادة إما على أنها شعور بالرضا، والإشباع، وطمأنينة النفس، وتحقيق الذات. أو أنها الشعور بالبهجة والاستمتاع واللذة”. ولكن حسب الكاتب فإن الأمر لا يخلو من صعوبات تتعلق بصدق المقاييس الذاتية للسعادة وبالتالى صعوبات تحويلها إلى مقاييس موضوعية بسبب اختلاف الناس فى فهمهم لما يتضمنه “الرضا التام”، وكذلك بسبب الميل العام إلى المبالغة فى التعبير عن درجة السعادة، وتأثير الحالة المزاجية العابرة.
وفى الحقيقة أننا ألفنا أن من يطلب الدعم النفسى هم أولئك الذين يعانون من اعتلالات أو مشكلات نفسية، أى راغبى التخلص من التعاسة وليس طالبى السعادة. ولذلك فإن قياس مقدار السعادة لم تكن من أولويات مجال الدعم والعلاج النفسى. ولكن على ما يبدو أن مسألة القياس باتت ذات أهمية فى عالم اليوم لأسباب سياسية واقتصادية أكثر من كونها نفسية أو حتى أخلاقية. وهكذا وجدنا أن المجتمع الدولى يهتم بإصدار “تقرير السعادة العالمى”، والذى بدء إصداره عام 2012 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعتمد التقرير فى قياساته على مجموعة من المعايير، مثل نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، ومتوسط العمر والحرية وسخاء الدولة على مواطنيها، ومجالات التعليم والصحة والعمل، كما يتضمن الدعم الاجتماعي وغياب الفساد في الحكومات أو الأعمال.
وفى الحقيقة أن استخدام معايير الرفاه الاجتماعى كمعايير لقياس السعادة ليس مقنعا إلى حد كبير، وخلط بين ما هو تنموى وحقوقى، وبين ما هو نفسى وروحانى. لا شك أن تردى الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والنزاعات والحروب تفضى إلى المآسى والتعاسة والشقاء، وهذا أمر مفهوم، ولكن الحماية من الألم والمآسى، لا يعنى بالضرورة السعادة، تماما مثلما يتعامل المعالج النفسى مع حالات الاكتئاب أو القلق، فهذا شئ، اما أن يتدخل ليجعل الشخص سعيدا فهذا شئ آخر، وغالبا غير مألوف.
وهذا النهج فى الترويج لقياسات السعادة، لم يسلم من النقد، فمثلا يقول الكاتب والمخرج السينمائى الإيطالى ستيفانو بينى: “كم أحب أن أعرف كيف يقيس الإحصائيون وعلماء الاجتماع وعلماء النفس مفهوم السعادة على نحو يسمح بصياغة تصنيفات تخص السعادة. ففى كل حين تظهر على أغلفة المجلات عناوين من قبيل: “أسعد بلد” “أسعد شعب”. بل أيضا “أسعد مهنة”، و”أسعد حيوان”، وربما “أسعد وسيلة للموت”… أعترف أن هذه التبسيطات تزعجنى. فالسعادة أثمن وأبعد منالا وأعصى على الوصف، بحيث يمكن حبسها داخل هذه العلب، التى تزعم أنها علمية، وهى فى الحقيقة زائفة”.
والخلاصة، أن لا أحد ينكر جمال السعادة وقيمتها، ولكن الحقيقة أننا لم نتوصل إلى تعريف محدد لما تعنيه هذه الكلمة. وأعتقد أن الاعتراف بذلك أفضل بكثير من الوقوع فى فخ تعريفات يتم صياغتها لأهداف اقتصادية أو سياسية تسويقية. وربما يكون القضاء على مسببات الألم والتعاسة وهى معروفة، أفضل بكثير من الترويج لسعادات مبهمة وربما مصطنعة.