مرت سنوات طويلة الآن ونحن نسمع ونتابع الكثير من الكتابات والأحاديث والمؤتمرات والملتقايات المحلية والدولية حول موضوع “تجديد الخطاب الدينى”، ورغم هذا الانتشار الهائل لفكرة التجديد، إلا أننا مازلنا نعانى من تأثيرات الخطابات الدينية المحافظة، بل وخطابات الكراهية وحتى القتل باسم الدفاع عن الدين. وربما هذا يدفعنا إلى التساؤل، وهو تساؤل مشروع على أى حال، ما هى على وجه التحديد رهانات تجديد الخطاب الدينى؟ وفى محاولة للإجابة عن هذا السؤال، أود تقديم بعض الملاحظات ذات الصلة بالجدل الدائر حول تجديد الخطاب الدينى.
ملاحظتى الأولى، هى أن أننا نستخدم كلمة “الخطاب” بالمفرد ولكننا فى الحقيقة نتحدث عن خطابات متعددة حتى داخل الخطاب الواحد. فثمة رهان خاطئ من البداية وهو تصور أن الخطاب الدينى تملكه جهة ما مركزية قادرة على تجديده ونشره وحمايته، وهذا الأمر غير صحيح على الإطلاق، لأننا طالما تحدثنا عن خطاب أو خطابات فينبغى أن ندرك التنوع الهائل فى انتاج الخطابات الدينية، ليس من منظور تنوع الرؤى والاجتهادات فقط، ولكن أيضا من منظور تعدد المصالح والتوجهات الموجهة للخطابات الدينية، وفى مقدمتها المصالح والتوجهات السياسية التى ترسم ملامح خطابها الدينى عوضا عن أن يشكلها هذا الخطاب. فلا يوجد خطاب مركزي. وبالتالى فإذا كان ثمة رهانات فقد تخص خطاب أو خطابات معينة ولا يمكن التعميم.
الملاحظة الثانية، استنادا إلى تعدد الخطابات الدينية، ينبغى كذلك ملاحظة أن هذه الخطابات المتعددة لا توجد فى حالة سكون ولكنها تتفاعل مع بعضها وتصل أحيانا إلى حد الاحتدام. فالأفكار المجددة عندما تظهر على الساحة، وهذه مسألة معروفة قديما وحديثا، تنشط بالمقابل خطابات وأفكارا محافظة تهاجم التجديد وتحاصره وتكفرهفى كثير من الأحيان. ومما يزيد من تعقد الأمر هو رغبة كل اتجاه فى احتكار الخطاب الدينى وتصويره على أنه الصحيح والمركزى والمطلق. وبالتالى فإن هذا البعد التفاعلى يجب أن يؤخذ فى الاعتبار عند الحديث عن رهانات تجديد الخطاب الدينى.
الملاحظة الثالثة، من يتابع معظم الجدل الدائر حول تجديد الخطاب الدينى، يمكن أن يلاحظ أن هناك اكتفاء بشعار التجديد على حساب عمليات التجديد ذاتها، على طريقة أن “وضع القانون يغنى عن تطبيقه؟. وأكثر من ذلك، يمكن ملاحظة أن الكثير من رموز فكرة تجديد الخطاب الدينى، لا يستهدفون التجديد بقدر ما يستهدفون محاصرة الأفكار المجددة بتسليط سيف “الثوابت” التى لا ينبغى الاقتراب منها. وفى الحقيقة أن كلمة “الثوابت” لازالت كلمة مبهمة وغير محددة ويمكن تطويعها لمحاصرة الأفكار المجددة.
الملاحظة الرابعة، أن معظم عمليات التجديد فى الفكر الدينى لم تأت كمبادرات فكرية تحرك الواقع وتطوره، ولكن على العكس فقد كانت دائما استجابات لمتغيرات الواقع. ومن يتابع تحولات الخطابات الدينية فى العصر الحديث بتطوراته الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية يستطيع بقليل من الجهد أن يكتشف أن متغيرات الواقع كانت هى العامل الحاسم فى تطوير الفكر الدينى، كما أنها بالمقابل كان دافعة إلى ظهور خطابات محافظة ومعادية للتجديد.
فى ضوء هذه الملاحظات، أزعم أننا بحاجة إلى إعادة النظر فى رهانات تجديد الخطاب الدينى، فلا يوجد خطاب مركزى يمكن الرهان عليه، كما أن الأفكار المجددة تنشط أفكارا محافظة ومعادية للتجديد، فضلا عن أن فكرة التجديد باتت أقرب لأن تكون شعارا يشغلنا عن مقتضيات التجديد ذاتها، وأخيرا وهذه الملاحظة الأهم، أن متغيرات الواقع كانت دائما هى الحاسمة فى تحولات الخطاب الدينى إيجابا أوسلبا، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن الرهانات الحقيقية يجب أن تنطلق من الواقع قبل الخطاب.