تعلمنا أن الفرد كائن اجتماعي، شأنه في ذلك شأن الكائنات الحيوانية التي تعيش في مجموعات أو قطعان. والحالة الاجتماعية أو الجماعية ليست مجرد تجمع لأعداد من البشر، ولكنها إطارللتعايش والتواصل والاستمرار. ودائما هناك تقدير للعيش ضمن جماعة سواء في الأديان “وعليكم بالجماعة” أو في الثقافة الشعبية “الجنة من غير ناس ما تنداس”. أما العزلة والانعزال فهي أمور تبدو غير طبيعية، ويُنظر إليها كعلامة على الخلل النفسي أو الجنون، إلا في أحوال استثنائية حيث تبدو تعبيرا عن الحكمة أو التسامي.
وعلى الرغم من التقدير لقيمة العيش الجماعى، إلا أن”الفردية” هي الأكثر تقديرا في المجتمعات الحديثة التي تعتبر “الفرد” وليس الجماعة بمثابة النواة والركيزة التي تقوم عليها النظم الاجتماعية والسياسية الحديثة، فالمواطنة أساسها الأفراد وليس الجماعات، والحريات “فردية” قبل أن تكون جماعية، والشعب هو مجموع أفراد وليس جماعات.
ومن الناحية التاريخية، فقد حدث تحول هائل في مفهومي الفرد والجماعة، فالتحول من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة ارتبط بالأساس بإعادة رسم ملامح الفرد والجماعة والعلاقة بينهما، ليبدأ ذلك التنظيم الذى نعرفه الآن باسم “المجتمع”. فالاحساس بالفردية التى نعيشها الآن لم تكن كذلك فى المجتمعات البدائية والتقليدية، وفى ذلك يقول كافين رالى في كتابه “الغرب والعالم”: “”وقد كان لكلمة “الفرد” ذاتها في العصور الوسطى معنى يختلف اختلافا شديدا عن معناها الراهن. فنحن حين نقول عن فلان إنه فرد بحق، نعنى أنه مختلف أو غير عادى أو منفصل عن البقية. أما فى العصور الوسطى فكان “الفرد” يعنى “اللصيق” أو “من لا يمكن فصله عن غيره”، أى المعنى العكسى لما نعنيه اليوم. فالفرد في العصور الوسطى هو شخص يعد ممثلا نمطيا لجماعته، يستحيل فصله عنها. لقد كان الفرد يعد خير مثال للطبقة أو الأسرة أو الصنعة أو الأمة أو الجماعة العامة التي يجري وصفها”. إن هذا التحول نحو الفردية هو الذى شكل جوهر الحضارة الحديثة على المستوى السياسي (المواطنة)، والقانوني (الحقوق الشخصية والعقوبات)، والطب (الجسد المادي التشريحي المنفصل عن الجماعة وحتى عن صاحبه)، وعلم النفس (الأنا)، فكل هذه الظواهر التي قد يعتقد البعض أنها ملازمة لتاريخ البشر، هي في واقع الأمر ظواهر حديثة ارتبط بالفردية والإحساس بها.
وبالنظر إلى وقتنا الحاضر سنكتشف أن فكرة الفردية هي التي تؤرقنا أكثر من غيرها، من زوايتين مختلفتين تماما، فمن ناحية، هناك قلق متزايد بشأن الحق فى الخصوصية والحقوق الشخصية فى مواجهة سطوة التفكير الجماعي، خاصة في مجتمعاتنا التي مازلت توظف المعايير الجماعية لكبت الحريات الشخصية، وفوق ذلك فإن الحالة الطائفية والعرقية والدينية التي ترتكز على فكرة “الجماعة” أصبحت وبشكل متزايد تهدد فكرة “المجتمع” التى ترتكز على الفردانية بالأساس.
ومن ناحية أخرى، هناك تخوفات تتزايد بسبب التأثيرات التكنولوجية التي تفرض علينا الانزواء والعزلة خلف شاشات أصبحت سبيلنا للتواصل مع العالم الخارجى، وفي هذا الفضاء الافتراضي نفقد حياتنا الاجتماعية المعتادة وخصوصيتنا في الوقت ذاته. ونضيف إلى ذلك، تداعيات ما يحدث الآن بفعل وباء كورونا والذى تصاحبه أيديولوجيا جديدة، أقصد أيديولوجيا “التباعد الاجتماعي” والتي من المتوقع أن تتجاوز حدود الإجراءات الاحترازية لتصبح نمط حياة.
وإجمالا، هناك اختلاف بين الكائن الاجتماعي والكائن الجماعى، فالأول يعيش ضمن شبكة علاقات اجتماعية ويمتلك حق الاختيار فلا يخسر فرديته حتى وإن اختار طوعا الارتباط بجماعة ما، والثانى يخضع لشروط جماعية وضغوط التبعية والخضوع، الأول مواطن والثاني واحد من الرعايا. ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن ليس علاقة الفرد بالجماعة ولكن علاقة الفرد بالمجتمع، أي تحديات التحول من زمن الكائن الاجتماعي إلى زمن الكائن الافتراضي تحت وطأة تكنولوجيا المعلومات التي تأخذنا نحو عالم غامض قد يفقد فيه الفرد “فرديته” ويفقد فيه المجتمع طابعه الاجتماعي.
إن الحق في الخصوصية وحرية الاختيار للأفراد، كانت النقطة الحرجة بين الكائن الجماعي والكائن الاجتماعي، وعلى ما يبدو أنها ستظل كذلك في مرحلة التحول من الكائن الاجتماعي إلى الكائن الافتراضي.