تحدثت فى مقال سابق عن مفهوم “الرضا”، وأشرت إلى أن قيمة الرضا تتحقق عندما يكون فعلا ذاتيا، أى تحقق ما نسميه “رضا النفس”. وفى هذا المقال أتناول مفهوما آخر يبدو على النقيض لأنه لا يرتبط بالذات أو النفس بقدر ما يرتبط بالجماعة والآخرين وبالسياق الثقافى والاجتماعى، وهو مفهوم “الستر”. فالمعنى الأساسى للستر هو الحجب والاخفاء، فما نستره هو شئ أو فعل لا نرغب فى إنكشافه خوفا من ضرر أو “فضيحة”. وبهذا المعنى فإن كلمة الستر هى الأكثر ارتباطا بوجود أطراف أخرى ترى وتسمع ويمكن أن تعاقب. ويكتسب مفهوم الستر معناه وأبعاده من السياق الثقافى والاجتماعى الذى يرسم حدود الكشف والاخفاء، وما يُقال وما ينبغى السكوت عنه. فعلى عكس الرضا، فإن الستر ليس احساسا ذاتيا، ولكنه استجابة وتفاعل الشخص مع متطلبات وشروط وضغوط البيئة المحيطة. إنه كستائر البيوت التى تخفى ما فى الداخل عن الخارج. ولأن الستر مسألة اجتماعية، فإن وظيفته الحماية، أى أن لا نكون فى موقف ضعف أمام الآخرين. فعندما نستر شخصا لحمايته من ظلم أو أذى قد يلحق به بدون وجه حق، فإن هذا الفعل يرفع مقدار الستر من مجرد إجراء وقائى للحماية إلى قيمة إنسانية وأخلاقية. هذا بخلاف التستر على أفعال تضر الآخرين، فهنا يكون الستر نوعا من التواطؤ وفعل قد يجرمه القانون أو حتى الأعراف الاجتماعية.
وعادة ما يرتبط الستر بثلاثة مجالات، أولا: الجسد والذى يتم النظر إليه بوصفه موضوعا للحجب والاحتشام؛ وثانيا: الكلام، أى إفشاء الأسرار؛ وثالثا: المكانة الاجتماعية، كأن يحدث شئ ما يؤثر على مكانتنا ووضعنا الاجتماعى. فمن ناحية أولى، يشكل المجال الجسدى الدائرة الأولى والأساسية لمفهوم الستر، وفى هذه الدائرة غالبا ما يكون الستر مسئولية شخصية، أى أن مسئولية كل فرد أن يستر نفسه. ولكن بما أن الموقف من الجسد مسألة ثقافية بامتياز، فإن الثقافات المحافظة التى تبالغ فى النظر إلى الجسد بوصفه عورة، تجعل الحجب والاخفاء مسئولية اجتماعية وأخلاقية ودينية. وعلى الرغم من أن العورة تنطبق على أجساد الرجال والنساء، إلا أن ثقافة “العورة” تخص النساء بالأساس، فجسد المرأة هو رمز العورة، وبما أنه كذلك، فإن ستر جسد المرأة مسئولية مزدوجة: شخصية وجماعية، أى مسئولية المرأة، ولكن أيضا مسئولية الرجل والجماعة وحتى الدولة. وهذا التضامن من أجل ستر أجساد النساء ليس فقط من أجل حمايتها ولكن لحماية المجتمع منها بما إنها مصدر إغراء وفتنة. والمسألة لا تتعلق فقط بالزى، ولكن بالوجود الاجتماعى للنساء بشكل عام، فيقال فى الزواج “نستر البنت”، وكأن عدم الزواج هو نوع من العرى الاجتماعى. ويصل الأمر فى بعض الأمثال الشعبية إلى حد القول أن “موت البنت سترة”. إن ارتباط مفهوم الستر بالعورة فى الثقافات المحافظة يحظى بأهمية استثنائية، وقد يكون كشف العورة أكثر خطورة من كشف الفساد.
أما المجال الثانى للستر، أى الكلام وإشاعة الأسرار وفضحها، فثمة بعد ذاتى، أى أن يفضح الشخص ذاته، وبعد اجتماعى أى إفشاء الأسرار من قبل آخرين، بداية من المقربين الذين يفضحون ولا يسترون “ما تتبلش فى بقهم فولة”، وحتى الإعلام وصحافة الفضائح. والفضائح مسألة ملتبسة فهى مثيرة ومزعجة، جذابة ومكروهة فى الوقت ذاته. وبالمعنى الثقافى الشعبى يتم التشديد على أهمية حفظ اللسان: “لسانك حصانك إن صنته صانك”، والتنبيه لخطورة الكلام: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”. وهناك الكثير من الأمثال الشعبية الأخرى التى تدين الخوض فى سيرة الآخرين: “اللى تجيب سيرتى تحتار حيرتى”.
ويبقى من الستر ما نتمناه ونطلبه من الله، أى عدم حدوث مكروه يضر بوضعنا الاجتماعى أو المهنى أو الصحى مثل الفشل أوالمرض أوتردى الأوضاع المعيشية أو أى شئ يمكن يسبب ضعف أو مذلة. ولعل أحد أكثر الدعوات شيوعا هى: “يارب استرنا وما تفضحناش”، وفى المخاطر سواء عشناها أو توقعناها نقول “ربنا يستر”. ونحن نقايض بالستر، فقد نستر آخرين أملا فى أن يُرد لنا، فالله هو “سابل الستر” أى من يرسله ويمنحه، ويقول المثل: “عين العبد غدارة وعين الرب ستارة”. ومع إن اسم “الستار” اسم “زائد”، على أسماء الله الحسنى التسع والتسعين، إلا أن استخدامه فى التسمية “عبد الستار” يفوق أسماء أخرى من أسماء الله الحسنى.
وإجمالا يمكن القول أن الستر فى حد ليس قيمة، وحتى يكون كذلك، يجب أن تتوافر له بعض الشروط ومن أهمها أن يكون بهدف الحماية من الظلم وليس تسترا عليه، وأن ينبع من إيمان بحق الآخرين فى العيش بأمان، فنحن نشعر بالأمان مع أشخاص هم لنا “ستر وغطى”. وأختم بحكاية طريفة عن أم كلثوم عندما سألوها عن “إبراهيم عفيفى” عازف الإيقاع فى فرقتها فقالت: “بيسترنى”، أى عندما تخطئ أمام جمهورها، تكون مهمته إخفاء الخطأ وإعادة الأغنية إلى مسارها. وهنا يمكن أن تتجلى قيمة الستر.