أول ناظرة مصرية وأول فتاة تلتحق بالجامعة الأهلية عقب افتتاحها
مصر بلدنا التي يعيش في رحابها مواطنون يختلفون دينيا جمعتهم محبتها ورواهم نيلها وظللتهم سماؤها تبرز في أوائل القرن العشرين علي أرضها مواطنة مصرية وشخصية نسائية مناضلة جديرة بكل إعزاز وتقدير وإكرام,حملت شعلة الفكر ومنارة العلم والثقافة للفتاة المصرية عاليا,إذ أنها قد نادت بضرورة اقتحام المرأة مجال التعليم,وقامت ببذل جهود ضخمة في سبيل أداء واجباتها لتحقيق هذا النداء,فخاضت معارك نضالية عديدة ضد وزارة المعارف آنذاك (وزارة التربية والتعليم حاليا) مطالبة بضرورة حصول المرأة التي تعمل في قطاع التعليم علي أجر مساو لأجر الرجل العامل في نفس المجال,واعتبرت قضايا المرأة في هذا القطاع هي قضاياها الأولي بل إنها من القضايا الوطنية الحيوية التي يجب التصدي لها لمساعدة المرأة في الحصول علي حقوقها النسائية…
هي نبوية موسي تلك الفلاحة المصرية التي نبتت من هذه التربة الخصبة,وهي ابنة لأحد الضباط في الجيش المصري هو اليوزباشيموسي محمد الذي كان كثير التنقل به محافظات الجمهورية نظرا لطبيعة عمله في هذا المجال العسكري,فامتلأت حياته بالمعارك والبطولات,حيث خاص المعركة مع عرابي باشا,وعقب اندلاع ثورة المهدي في السودان ضد الاستعمار الإنجليزي الذي سيطر علي البلاد كان اليوزباشيموسي محمد ضمن الفريق المصري الذي انتدب من أجل السفر إلي السودان ولكنه مات أثناء الحرب هناك,وكانت نبوية صغيرة السن وقتها فتولت أمها تربيتها ورعايتها هي وأخيها الذي يكبرها بنحو عشر سنوات(محمد)…من هنا نستطيع أن ندرك بالفعل سر مصرية هذه الفتاة الملتهبة دائما والتي دفعتها إلي إعلان ضرورة اهتمام المرأة المصرية بصفة خاصة بالعمل والكفاح والنضال لكي تأخذ مركزها في المجتمع,فكانت رائدة عظيمة من رائدات العلم ومن طلائع النهضة النسائية خلال النصف الأول من القرن العشرين…
*رحلة الكفاح الدراسية:
ولدت نبوية موسي محمد بدوية في 17 ديسمبر عام1886 بقريةكفر الحكما التابعة لمدينة الزقازيق,ومنذ طفولتها المبكرة امتد بصرها نحو العلم والمعرفة,قد أبت بعد أن بلغت السادسة من عمرها علي مطالعة كتب أخيها الأكبر محمد في مختلف الاتجاهات العلمية والمعرفية والذي كان بدوره يشجعها علي هذا الدأب,فتعلقت بالقراءة والاطلاع وقررت في إصرار غريب الاستمرار في مسيرة العلم والتعليم وذلك بالرغم من معارضة والدتها الشديدة واعتبار هذه الخطوة هي نوع من المخاطرة غير المعهودة علي فتيات هذا العصر,إلا أنه بمساعدة أخيها تمكنت نبوية من اقتحام هذه العوائق والتحقت بمدرسة السنية للبنات في عام 1901,وحصلت بشكل استثنائي علي الشهادة الابتدائية بعد ذلك بثلاث سنوات فقط وذلك نظرا لتفوقها ونبوغها العلمي وتحصيلها الدراسي السريع غير المألوف وسط زملائها فكانت هذه هي السابقة الأولي من نوعها حينذاك في مجال التعليم بمصر,وهذا الأمر شجعها كثيرا علي مواصلة رحلة الكفاح فلم تكتف بما نالته من تعليم بل استمرت في المجال الدراسي والتحقت بمدرسةالسنية الثانوية وأكملت دراستها في قسم المعلمات,ونالت شهادة البكالوريا (الثانوية العامة حاليا) في عام1907 (حيث كانت فترة الدراسة الثانوية في هذا الوقت لمدة أربع سنوات) وبحصول نبوية موسي علي هذه الشهادة أصبحت الرائدة الأولي للمصريات المتطلعات نحو الاستمرار في طريق العلم والمعرفة,وما أن نالت هذه الشهادة حتي أصبحت مؤهلة بالفعل للعمل كمدرسة وجاء تعيينها في مدرسةعباس الابتدائية للبنات وكان أول راتب تتقاضاه نبوية موسي خمسة جنيهات وهو مبلغ ضخم في تلك الفترة,وكان إقدامها علي هذه الخطوة الجديدة من نوعها في نظر المجتمع المصري من حولها آنذاك ليس إلا نوعا من التمرد وتخطي عادات وتقاليد بالية كانت راسخة في جذور المجتمع المصري منذ زمن بعيد,وغني عن القول أنها واجهت الكثير من المقاومات والعراقيل لكنها كانت باسلة قوية العزيمة ماضية الإرادة,فاستمرت في طريقها رغم كل هذه المصاعب,وتقدمت للحصول علي دبلوم من مدرسة المعلمين العليا التي كان الالتحاق بها قاصرا علي الرجال فقط من حملة شهادة البكالوريا,فذاكرت نبوية دروس هذه الشهادة,وتقدمت لأداء الامتحان,وسط دهشة كبيرة من الجميع خاصة أن وزارة المعارف(وزارة التربية والتعليم حاليا) اعتبرتها استثناء وحيدا عن القوانين واللوائح السائدة وقتها.. وبالفعل اجتازت نبوية الامتحان بتفوق شديد وصارت أول فتاة مصرية تنال هذه الشهادة والدرجة العلمية,وحدث بسببها جدل شديد في المجتمع المصري كله بجميع فئاته الاجتماعية والعلمية ما بين مؤيد ومعارض لتلك الخطوة الجرئية غير المعهودة من قبل وهو ما علقت عليه معظم الصحف والمجلات الصادرة في تلك الفترة,هكذا حصلت نبوية علي دبلوم المعلمات,وفي عام 1908 حيث كان الافتتاح الأول للجامعة الأهلية المصرية فاجأت نبوية المجتمع مرة أخري بإعلانها عن رغبتها في دخول الجامعة بل وإصراها علي ذلك,وهي بهذا الإعلان استعدت بالفعل لتصدي المسئولين ورفضهم القاطع.. وتسارع الناس لرؤية هذه الشابة التي تهدف إلي اقتحام أسوار الجامعة,وأمام هذه كله التحقت بكلية الحقوق,علي أنه من المؤسف أن رئيس الوزراء آنذاك استغل نفوذه في منعها من الحصول علي درجة الليسانس فقررت ألا تتراجع عن مسيرتها واستمرت تشتغل بالتدريس وإلقاء المحاضرات في الجامعة يوم الجمعة فقط الذي خصصته الجامعة لاستقبال النساء سواء لإلقاء أو لسماع المحاضرات الدراسية وهيأ لها هذا الأمر فرصة مواتية لأن تغرس في نفوس تلميذاتها السعي نحو التحرر وبناء شخصياتهن,وفي عام1909 صارت نبوية موسي أول ناظرة مصرية لمدرسةالمحمدية الابتدائية للبنات في مدينة الفيوم,وكان الحكم الإنجليزي آنذاك يفتح الباب للأجنبيات ويغلقه أمام المصريات,فكانت هناك ناظرات إنجليزيات بل وسويديات أيضا,أما المصرية فلم يكن مسموحا لها بشغل هذه الوظيفة لكنها ثارت علي الحكم الإنجليزي الجائر,وكانت أشبه بالخيول الأصيلة في سباق الحواجز فقفزت فوق كل الحواجز,وفتحت الباب بذلك أمام مواطناتها لشغل نفس الوظيفة,ولم تكف بنوية عن الصراع بل تمكنت من الحصول علي موافقة وزارة الحقانية(وزارة العدل حاليا) في عام1912 بالانتساب إلي كلية الحقوق,ونجحت في أداء الامتحان بالسنوات الدراسية الثلاث وفي السنة الأخيرة فوجئت باعتراض وزارة المعارف علي أدائها الامتحان,وذلك بحجة اشتغالها بالنشاط السياسي وانضمامها إلي الخديو عباس حلمي الذي كان مواليا للألمان,وكانت بريطانيا في هذا الوقت قد أعلنت الحماية علي مصر وأقالت الخديو عباس حلمي من منصبه,وأمر دنلوب المستشار الإنجليزي بنقلها إلي درجة وظيفة أقل هي وكيلة لمدرسة المعلمات في بولاق عقابا لها,وتقرر أن لا تستقر في وظيفة واحدة وأن لا يكون لها مقر دائم تستقر فيه ففي عام1916 تم نقلها إلي مدرسةالورديان في الإسكندرية,ثم صارت في وظيفة مفتشة للتعليم الابتدائي بديوان عام وزارة المعارف في القاهرة,وهي مهنة لم يكن لها أية اختصاصات محددة وكان ذلك في عام1920.وأخيرا أمر المستشار الإنجليزي بمنع نبوية موسي إجازة مفتوحة مدفوعة الأجر لإبعادها عن الاستمرار في المجال التعليمي وجذب أكبر عدد من الفتيات إلي المدارس في أشهر قليلة بعد أن كان أولياء الأمور يحجمون بشدة عن إلحاق بناتهم بالمدارس.
*الافتراءات الوظيفية ومعاداة السلطات لها:
هذه العطلة الإجبارية ألهبت حماستها إلي أن تخوض مجال الصحافة,فاتجهت إلي تأليف الكتب وكتابة المقاولات ونشرها في الصحف والمجلات المتعددة,وأنشأت في الإسكندرية مجلةترقية الفتاة التي انبثقت عنها جمعيةترقية الفتاة وتولت إداراتها ومباشرة أعمالها بنفسها,وأسست بالتعاون مع الجمعية مدرسة ابتدائية خاصة للبنات بالإسكندرية,وخلال كتاباتها هدفت نبوية موسي إلي التحذير الدائم من مخاطر التحرر لدي النساء,وكانت تري أنه ليس مجرد سفور ومجون فحسب وإنما هو إزالة الغشاوة والجهالة وتهيئة الفتاة المصرية لأن تقف جنبا إلي جنب مع الفتي في تحمل مسيرة المسئولية في الحياة العامة,وفي هذا المضمار أيضا عقدت نبوية الكثير من الندوات وألقت الخطب الهادفة التي ردت من خلالها علي العديد من التساؤلات التي سخرت من وضع المرأة في المجتمع آنذاك ومنها:هل من حق المرأة أن تشارك الرجل في تغيير أوضاع المجتمع وتخرج من عزلتها وصمتها لتستنير بالعلم والمعرفة؟!! وللمرة الثانية صدر الأمر باعتقالها في بداية الأمر ناهضها العقاد في شئ من السخرية إذ قال:أي تحرر يمكن أن تكسبه المرأة علي يد امرأة أخري مثلها؟!!,ولكنه أنصت إلي خطبها وقرأ مقالاتها وعندها أعلن:لو استمرت دعوة هذه السيدة الثائرة علي هذا الاشتعال فسوف يكون للمرأة في مجتمعنا شأن آخر بسببها فهي تلك المرأة الرائدة الباسلة قوية الإيمان برسالتها ومسيرتها …وأمام اقتناع بعض المثقفين بحركة تحرير المرأة المصرية قررت السلطات إنهاء عطلتها وعادت نبوية إلي العمل في ديوان عام وزارة المعارف بالقاهرة,وذلك في فترة وزارة علي ماهر باشا,إلا أن المضايقات الوظيفية عادت لتلاحقها من كل جانب مرة أخري,فتوجهت نبوية بشكواها إلي الوزير علي ماهر باشا لكنه لم يصغ إليها وقرر فصلها من الوزارة في مارس عام1926,واستمرت الافتراءات ومعاداة السلطات تلاحقها في مسيرتها ففي 4فبراير سنة1942 وفي أعقاب وزارة النحاس باشا صدر قرار اسمي بإغلاق مدارسها التي أسستها بهدف تعليم البنات,وتمت مصادرة مجلتها ترقية الفتاة التي أسستها في الإسكندرية,وأخيرا تم اعتبارها من الموالين لحزب الأحرار الدستوريين المعادي لحزبالوفد فتم اعتقالها ومعاملتها بمهانة شديدة وأخيرا تقدمت للمحاكمة وسجنت,وبعد الإفراج عنها قررت نبوية موسي أن تمنح مدرستها التي أسستها علي نفقتها الخاصةبنات الأشراف ملكية خاصة ووقفا خيريا للدولة فقررت وزارة المعارف آنذاك ان تعيدها إلي السلك الوظيفي فيها وصدر الأمر أيضا بإضافة مدة خدمتها السابقة في الوزارة التي فصلت منها إلي ملف خدمتها الوظيفي وظلت تعمل في الوزارة إلي أن أحيلت لسن التقاعد في ديسمبر عام1946.
*دفاعها عن حقوق المرأة القبطية:
في رحلة كفاح نبوية موسي والتي استمرت ما يقرب من سبعين عاما لم يقتصر صراعها في سبيل تعليم ورقي الفتاة المصرية وإعطائها كافة حقوقها المهضومة وإنما امتد هذا الصراع ليشمل الدفاع علي النساء القبطيات فحين كانت تجد الإنجليزية أو غيرها من الأوربيات تعمل كناظرة في المدارس المصرية كانت تقول بأعلي صوتها في دهشة وسخرية معلنة وسط ديوان عام وزارة المعارف:أليست هذه الأوربية امرأة مسيحية أيضا,فلماذا لا تحصل المرأة القبطية علي هذا المنصب المهني أيضا؟هل لأنها مصرية؟!!ألا يجب أن تكون المناصب في مصر من نصيب بنات مصر؟وهل هذه العدالة التي أذاع الإنجليز أنهم دخلوا مصر ليتبنوها؟ وفي هذه الصيحات كنا نسمع صوت الثورة الكامنة التي تملأ نفوس كل المصريين من الرجال والنساء معا,والتي كانت لنبوية موسي وحدها القدرة والجرأة والشجاعة علي إعلانها للجميع,واستمرت في هذه الثورات المتتالية فحين أشعل سعد باشا زغلول ثورته العارمة في 8مارس عام1919 ضد الاحتلال الإنجليزي انضمت نبوية موسي إلي مجموعة النساء والفتيات الثائرات المناضلات,فكانت تذهب إلي المدراس تلهب الجميع بالخطب للمشاركة معهم,وكانت تخرج متجولة في الشوارع والميادين علي رأس التلميذات الصغيرات في المظاهرات السياسية فأصبيت ذات مرة برصاصة في كتفها ورحلت نبوية موسي في 30أبريل عام1956 ..فتحية إعجاب لهذه المرأة المناضلة..
*قالوا عنها:
من أبرز ما قيل عن المربية الفاضلة الآنسة نبوية موسي ما سجلته لجنة الاتحاد النسائي المصري التي سافرت إلي روما في منتصف شهر مايو عام1923 للمشاركة في المؤتمر النسائي الدولي المنعقد.. وكانت نبوية من السيدات التي تم اختيارهن ضمن اللجنة النسائية المصرية لتمثيل النساء المصريات هناك هدي شعراوي,نبوية موسي,سيزا نبراوي وعن نبوية أوضح تقرير اللجنة:أن هذه المربية المعروفة لو كانت تعيش في بلد آخر غير هذا البلد لوصلت إلي ما وصلت إليه السيدة خالدة أديب في قومها من المكانة والرفعة…أليست هي منشئة مدرسة ترقية الفتاة في الثغر الإسكندري,فكانت آية من آيات الإبداع والإتقان,وأصبحت علي حداثة عهدها من أكبر المعاهد العلمية النافعة في القطر المصري.
أما عن كفاءتها فهي أول فتاة مصرية حصلت علي أكبر قسط من التعليم,وشغلت مركزا ممتازا في وزارة المعارف بعد أن برهنت علي نبوغها وتفوقها,وهي المرأة العاملة المجدة وراء نشر رسالة التعليم وتعميمها علي الفتيات لسنوات طويلة.
وفي مقالة وجدت ضمن الأوراق الخاصة لإيريس حبيب المصري مكتوبة بخط يدها علي ورقة يبدو أنها كتبت منذ زمن طويل وليس عليها تاريخ,ولانعلم إن كانت قد نشرتها في مجلة أو جريدة أو كتاب,ولكن الواضح أنها تحوي أراء إيريس الشخصية في ضرورة اهتمام المرأة المصرية بالعمل والكفاح والنضال لكي تأخذ مركزها في المجتمع أكدت من خلالها أنه بالرغم من أن دينها هو الدين الإسلامي إلا أنها أكثر شخصية إسلامية سواء من الرجال أو النساء دافعت عن حقوق الأقباط خاصة من النساء دفاعا علنيا خلال هذه الفترة.
**مراجع الدراسة
*تاريخي بقلمي-نبوية موسي
*إيريس حبيب المصري..مؤرخة قصة الكنيسة. القبطية-جمع وتحرير دورا حبيب المصري.
*المرأة والنفوذ-إيريس حبيب المصري.
* نساء شهيرات-فؤاد شاكر.
*مجلةالمرأة المصرية-العدد الخامس-السنة الرابعة-مايو عام1923.
*الأهرام -أعداد مايو ويونية سنة1923.
*مقالرائدة باسلة -مذاكرات إيريس حبيب المصري.