قامت مجموعة من المسلحين الجناة ممن يسميهم البعض بـ ”المقاومة الوطنية” يوم 29فبرايرالماضي, باختطاف قداسة المطران بولص فرج رحو, مطران الكلدان الكاثوليك في الموصل, بعد أن قتلوا سائقه واثنين من مرافقيه. وبعد أسبوعين من اختطافه, عثرت الشرطة العراقية علي جثته قرب مدينة الموصل التي اختطف فيها.
هذه الجريمة الفظيعة ليست الأولي, وربما ليست الأخيرة, من نوعها, بل تعرض لها المسيحيون العراقيون ورجال دينهم مرار إلي القتل والاختطاف وتفجير كنائسهم, وقتل العشرات من رجالهم ونسائهم, واختطاف أعداد من أبنائهم وبناتهم بغية دفع الفدية والاغتصاب والتنكيل بهم باسم الله والإسلام و”المقاومة الوطنية”. لا شك إن هذه الأعمال هي جرائم بشعة وفق جميع المعايير, تكشف حقيقة القائمين بها, والتشويه الأخلاقي والفكري وغسيل الدماغ الذي تعرضوا له علي أيدي فقهاء الموت من دعاة الإسلام السياسي.
ولكن رغم كل هذه الجرائم البشعة التي يدينها كل إنسان عاقل سوي, يصر البعض من اليسار واليمين وقادة الإسلام السياسي, علي أن ما يجري في العراق مقاومة وطنية مشروعة وشريفة تستحق الدعم!! بل وذهب كاتب إلي أبعد من ذلك, وكنا نعتقده أنه شيخ العلمانيين والديموقراطيين والليبراليين, فلم يكتف بوصف ما يجري في العراق بأنه مقاومة وطنية فحسب, بل وقارنه بالمقاومة الفيتنامية والجزائرية ضد الاستعمار, فأعطي ”المقاومين الشرفاء جدا” جرعة عالية من المعنوية والأمل, فقال لهم إنه يري مستقبل العراق في فيتنام اليوم .
كم أتمني لهؤلاء السادة من اليساريين والليبراليين, ومنهم من يدعون الشيوعية والماركسية, الذين يدبجون المقالات الطويلة, بحمد ”المقاومة” ويبعثون لها التحيات للشد من أزرهم ورفع معنوياتهم وحثهم علي مواصلة ”الجهاد” ”لكي تمرغ رأس أمريكا في الوحل”, أقول, كم أتمني لهؤلاء أن يجيبوا علي سؤالنا البسيط وهو: هل قتل رجال الدين المسيحيين المسالمين مثل المطران رحو, وحرق كنائسهم هو مقاومة وطنية ترقي إلي المقاومة الفيتنامية والجزائرية ضد الاستعمار؟
الكل يعرف أن المسيحيين العراقيين هم من سكان العراق الأصليين, وهم من بناة الحضارة الرافيدية التي يتباهي بها جميع العراقيين اليوم. وهم طيلة مراحل التاريخ, وحتي بعد الغزو العربي الإسلامي للعراق وتحويله إلي ”بستان قريش” تحملوا الظلم والتمييز العنصري والاضطهاد الديني, وبقوا في العراق نظرا لتعلقهم بوطن الأجداد, فساهموا بإغناء الثقافة العربية الإسلامية خلال عهود الدولة الإسلامية. وعندما تأسست الدولة العراقية الحديثة, كان للمسيحيين العراقيين دور نشيط وفعال في جميع المجالات, في الحركات الوطنية التقدمية, والثقافية, والفنون الجميلة, ونقل الحداثة وقيم الحضارة الحديثة إلي الشعب العراقي بعد سبات عميق في ظلام دامس دام أربعة قرون من الحكم التركي العثماني المتخلف.
لا يغير من الأمر شيء إن كان المطران بولص فرج رحو, قد مات أو قتل علي يد خاطفيه, ففي جميع الأحوال, إن مجرد اختطاف إنسان مسالم كهذا, لم يشفع له عمره المتقدم وحالته الصحية ومكانته الدينية, هو قتل متعمد علي يد جناة فقدوا صفاتهم الآدمية. وذات الصفات تنطبق علي مؤيدي القتلة الأوباش, وأولئك الذين يعقدون المؤتمرات في أوربا وغيرها ويدعون لها أيتام صدام حسين من فلول البعث, وأولئك الذين يخصصون الجوائز الوهمية لشعراء ”المقاومة”, نقول لهؤلاء: متي تصحو ضمائركم؟ ومتي كان قتل رجال الدين المسالمين يمت بصلة إلي مقاومة وطنية؟ وهل قتلت المقاومة الفيتنامية والجزائرية رجال الدين وفجرت دور العبادة؟
إن أقل ما يقال في هؤلاء الكتاب المؤيدين للجناة ومهما كانت حججهم, أنهم أضاعوا بوصلتهم, وفقدوا القدرة علي التمييز بين الحق والباطل, بين الصحيح والخطأ. فتري الماركسيين اليساريين منهم يؤيدون أتباع بن لادن والبعث الفاشي في قتل الشعب العراقي وتدمير مؤسساته الاقتصادية وبناه التحتية, لا لشيء إلا لأن الجهة التي أنقذت الشعب وأسقطت الفاشية البعثية في العراق هي أمريكا. وهنا أود أن أذكر هؤلاء ”الرفاق” بقول لينين, أن الفارس الماهر هو الذي يعرف كيف يقفز ليمتطي صهوة الفرس, أما الذي يقفز إلي أقصي اليسار أو أقصي اليمين, فكلاهما يلتقيان ولكن عند حوافر الفرس. وهذا الذي يجري اليوم من لقاء بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف في تحالف مخز أساء لسمعة اليسار.
لقد بعث مقتل قداسة المطران بولص فرج رحو زلزالا في جميع أنحاء العالم, لتميد الأرض من تحت أقدام الطغاة وفلول الإرهاب الإسلاميين والتكفيريين وحلفائهم البعثيين , وليوجه لكمة علي رؤوس مؤيديهم من اليسار واليمين, عسي أن يفيقوا من غفوتهم وغيهم. إذ متي تصحو ضمائرهم ليروا الحقيقة بأعينهم إن كانت لهم أعين يبصرون بها؟. فهؤلاء مصابون بعمي البصيرة, والعمي الاجتماعي والسياسي, إنها نتيجة النظرة الضيقة التي يرون بها الأشياء من خلال الأيديولوجيا الضيقة التي أكل الدهر عليها وشرب, وبتأثير الكوبونات النفطية التي أغدق بها عليهم ولي نعمتهم المقبور جلاد الشعب العراقي صدام حسين من قبل, ومن أيتامه الآن, ومن بعض أثرياء النفط العرب.
لقد أثار اختطاف ومقتل قداسة المطران رحو ومرافقيه استنكار واستهجان جميع الشرفاء في العالم من رجال الدين والفكر والسياسة, إلا أولئك الذين في قلوبهم مرض من دعاة الإرهاب من فقهاء الموت الذين يواصلون غيهم في غسل أدمغة المسلمين في بث روح الكراهية والعداء بين مكونات الشعب الواحد, والشعوب. فسلام علي روح قداسة المطران رحو وله الذكر الطيب, وعزاؤنا العميق لذويه وأتباعه من أخوتنا المسيحيين والشعب العراقي. والخزي والعار لقتلته الإرهابيين ومؤيديهم.
طبيب وجراح عراقي مقيم ببريطانيا
تعليق الصورة:
صورة نشرتها وكالة أنباء الفاتيكان للمطران القتيل أثناء لقائه بالبابا بنديكتوس.
ويظهر في الوسط الكاردينال عمانؤيل الثالث دلي (موقع بي. بي. سي).