أقامت جماعة من القوميين العرب مركزا في بيروت باسم مركز دراسات الوحدة العربية, يحاول البحث في سبل توحيد العرب, ولهم في هذا جهد محمود, ما أدعو إليه اليوم هو عكس ذلك تماما, العرب اليوم يحتاجون إلي بناء مركز مغاير أسميه مركز دراسات الخلافات العربية. ذلك لأن حجم الاختلافات الحالية والمستقبلية بين الدول العربية أكبر بكثير من أي ملامح اتفاق, والخلافات الكامنة مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر. فلا يستقيم للعقل أن نكون مختلفين جذريا في ما بيننا, ونبحث عن سلام مع إسرائيل. كما أنني غير مقتنع بأنه يوجد في أي دولة عربية اليوم عدد كاف من الناس يؤيد فكرة السلام, مما يشجع السياسي علي المغامرة كما فعل السادات, ولكن هذا حديث آخر يحتاج إلي مقال منفرد. المهم اليوم هو توضيح حجم الشروخ العربية التي يجب إصلاحها في ما بيننا قبل أن نضحك علي أنفسنا وندخل في دوامات حول السلام مع الآخر, الأمريكي أو الإسرائيلي أو الغربي عموما.
لنبدأ بقضية العرب المركزية, فالشرخ الفلسطيني اليوم لم يعد ينفع معه حتي مؤتمر سلام فلسطيني ـ فلسطيني, الفلسطينيون بين الضفة الغربية وغزة أصبحوا مفصولين أيديولوجيا وجغرافيا. خلاف عميق لا يريد البعض من العرب إصلاحه, ومن أراد فإنه لن يستطيع. هذا الوضع يربك المجتمع الدولي, الذي عودناه بخطبنا ودعاياتنا علي أن هناك ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. اليوم يجد ممثلين تقف خلف كل منهما دول وحركات, فمن يضمن ألا يكون للشعب الفلسطيني ثلاثة ممثلين أو أربعة بعد غد؟!
لبنان, يحتاج إلي مؤتمر سلام داخلي تديره كل القوي الفاعلة الدولية والإقليمية, بما في ذلك الجامعة العربية والأمم المتحدة, ومع ذلك فظني أن اللبنانيين بعنترياتهم المتلفزة قادرون علي إفشاله!
في لبنان الكل زعماء, فمن أين سنأتي بالشعب؟, كما كتب الراحل الماغوط في إحدي مسرحياته. فمن زعامة البطريرك إلي زعامة بعبدا إلي زعامة الدروز إلي زعامة الكتائب إلي زعامة الشيعة إلي زعامة السنة إلي زعامة من لا زعامة له.. هذه الزعامات أنتجت تحالفات غصونها داخل لبنان وجذورها ممتدة خارجه, والتحالفات أنتجت بدورها جماعات آذار وشباط وأيار, وغدا قد تكون هناك جماعات كانون الأول وكانون الثاني وربما جماعة كانون الثالث, فكل شيء وارد وممكن في لبنان!
الحالة العراقية بكل تعقيداتها تحتاج إلي مؤتمرات عدة للسلام والمصالحة بين الطوائف وبين الأحزاب والميليشيات والديانات والملل والنحل. العراق اليوم مقسم بوضوح إلي ثلاث دول, شيعية وكردية وسنية. صراع طائفي وعرقي وصراع علي السلطة وصراع علي من سيملك النفط. وصراع بين العراق وجيرانه. ألف صراع وصراع!
السودان وحده يحتاج الي مؤتمر سلام موسع بين شرقه وغربه وشماله وجنوبه.. طبعا السودان مرتبط اليوم باتفاقيات ومعاهدات بين جهاته المتعددة من اتفاق أبوجا إلي اتفاق نيفاشا, وغيرها من اتفاقات بين عرب إقليم دارفور وغير العرب في الإقليم, بين دارفور والحكومة المركزية في الخرطوم, هذا في ما يخص مشكلة دارفور, أما المشكلة بين الشمال والجنوب فهي مزمنة حتي أصبحت من كلاسيكيات الصراعات التي تدرس في الأكاديميات تحت مسمي الصراع الممتد. الخلافات داخل الدولة الواحدة ربما ناتجة عن عدم قبول الآخر في الحياة العربية لأسباب اجتماعية أو دينية أو عرقية, أما الخلافات بين الدول العربية, خاصة المتجاورة منها , فهي تسد عين الشمس. وما علينا إلا أن نستعرض مثلا تاريخ العلاقات الجزائرية ـ المغربية, أو العلاقات السورية ـ اللبنانية, أو العلاقات الكويتية ـ العراقية, أو العلاقات السعودية ـ القطرية, أو العلاقات الأردنية ـ السورية, أو العلاقات السعودية ـ السورية, أو العلاقات المصرية ـ السودانية.. هذا علي صعيد الحكومات. ومن الطبيعي أن تكون بين الدول اختلافات, ولكن من غير الطبيعي أن الدول العربية حتي عندما تصل الخلافات بينها إلي حد القطيعة, يظل مسئولوها يعلنون أنه لا خلاف بين الأشقاء.. حالة من الضبابية المركبة للشعوب والعالم. لذلك أصبحت مجرد نكتة معتادة أن تظهر علينا عناوين الصحف عشية أي من القمم العربية علي غرار: بوادر خلافات عربية تهدد اجتماع وزراء الخارجية العرب… والقمة.
أما علي صعيد الشعوب العربية, فمن يزور مدينة كلندن في الصيف, ويجتمع بأبناء العرب هناك الوافدين منهم والمقيمين, المثقفين منهم والجاهلين, الأثرياء منهم والذين علي باب الله, سيتبين عقدة التفوق التي يشعر بها المصري تجاه الشامي والخليجي والمغربي, وعقدة الاستعلاء التي يشعر بها الشامي تجاه الخليجي والمصري والمغربي, وعقدة الثراء التي يشعر بها الخليجي تجاه السابقين.. هذا كله بدأ ينعكس في الكتابات القادمة من العواصم العربية المختلفة, وفي الحياة الثقافية العربية بشكل عام. تتفجر ينابيع الحقد والغضب هذه عند أي أزمة بين بلدين يسمح فيها الحديث. وما عليك إلا أن تراجع التراشق بالتهم في أزمات سابقة حتي تقدر حجم الغضب والكراهية. لذا أفهم جيدا ألا نجيب علي سؤال لماذا يكرهوننا؟ الذي طرحه الأمريكيون, فالأهم هو أن نسأل أنفسنا: لماذا يكره بعضنا البعض وبهذه الحدة؟.. سؤال تمنعنا حالة التكاذب الوهمية التي تسيطر علي ثقافتنا من الإجابة عليه. نهرب من الإجابة علي الأسئلة الحقيقية متدثرين بعباءة الأخوة في العروبة والإسلام.
حتي في داخل البلد الواحد, بدأت تطفو علي السطح كمية من الكراهية غير معهودة. فمن يقرأ الصحف المصرية مثلا يري أمرا غير مسبوق في الحياة السياسية والاجتماعية المصرية في ما يخص الحديث عن علاقات المسلمين بالمسيحيين. حملات عمن أسلم وعمن تنصر, لم تعرف لها مصر مثيلا في تاريخها الحديث.
وأن يشعر مثلا شاعر بحجم أدونيس, بأنه محارب في عالمه العربي الذي يتجول فيه بلغته وشعره, لأنه ينتمي إلي طائفة معينة, كما ذكر في أحد حواراته المكتوبة, فهذا الأمر برأيي مؤشر خطير أيضا علي حجم الكراهية في عالمنا, ولن أعزوه أبدا إلي هلوسات شاعر يعاني عقدة الاضطهاد.. وأن ترفع قضية حسبة علي شاعر كبير آخر هو أحمد عبد المعطي حجازي من جماعات تتخذ الدين ستارا للعنف, ويحكم القضاء لهم فيضطر الرجل إلي بيع أثاث منزله.. فهذا حال لا يبشر بسلام داخلي في واحدة من الدول العربية الكبيرة.
قد يدعي البعض أن الحل في الحوار بين التيار العروبي ـ الإسلامي أو بين التيار الليبرالي والإسلامي أو بين المذاهب الدينية المختلفة.. أنا شخصيا لم أعد مقتنعا بفكرة الحوار بصيغتها الحالية. مثلا لا يمكن التحاور مع الإخوان المسلمين إلا بعد أن تؤمن هذه الجماعة بفكرة المساواة بين البشر وتتخلي عن فكرة الولاية العظمي, وعن أمراض المواطنة المنقوصة تجاه المرأة والأقباط. فالمهم ليس هو الحوار وإنما نوعية الحوار. الأساس في أي حوار هو الإيمان بفكرة الاختلاف, كيف تتحاور مع شخص أو جماعة لا تؤمن بحق الاختلاف؟ الحوار بصيغته الخادعة المطروحة يبدو وكأنه ينم عن رحابة صدر, ولكن كيف لـفتح مثلا أن تحاور حماس, إذا لم تعترف حماس بأنها ألقت الشباب من سطوح البنايات, وبعد أن قتلت وسلبت؟ وكيف لـحماس أيضا أن تحاور فتح إذا لم تعترف الثانية بأخطائها؟ إذا فشلت هذه الجماعات في تحقيق السلام مع بني جلدتها, أو مع أنفسها, فكيف للآخر أن يقتنع بجديتها في السلام معه؟ الحوار والسلام يحتاجان إلي بيئة مناسبة تهيئ لنجاحهما, ولكن معظم إعلامنا اليوم سيطرت عليه جماعات كارهة للسلام, مغرمة بالتفجيرات وكارهة للحياة.. إعلام ساهم في خلق بيئة ملوثة تصعب من مهمة أي سياسي في أن يكسب تعاطفا شعبيا مع أي مبادرة سلام. حتي أصبح حديث السلام عارا في لغتنا اليوم بفضل فضائيات الجهاد. لذا بدلا من إقامة المؤتمرات من أجل دراسات الوحدة, لنبدأ بما هو واقعي, أي بانشاء مركز خاص ومتخصص في دراسات الخلافات العربية نسميه مركز دراسات الخلافات العربية.
باحث بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن