لأني عشت طفولتي في الريف قبل أن أسافر لألتحق بالدراسة فقد انطبعت في ذاكرتي ذكريات طفولة لا تنسي مع الزمن وطول السنوات. كنت أراقب من نافذتي ذات الحديد الكثير مما يجري أمامي. وأول هذه الأشياء كنت أتابع الحركات التي يصنعها الجمل باعتباره أكبر الحيوانات وأضخمها وتملأني الدهشة وأنا أري طفلا صغيرا لم يتجاوز عمره الخامسة يقود هذا الجمل. يأمره أن ينخ فيستجيب ويسجد علي الأرض بهدوء ورضاء واستكانة. وأدري الجمل محملا بأعواد القصب بسير مختالا بنفسه بخطوته السريعة القافزة, وكأنه لا يحمل شيئا وبالطبع أشاهد وأتابع الحيوانات الأخري وهي مقادة مع كبار أو أطفال في طريقها إلي الحقول وفي عودتها عند الغروب إلي حظائرها. ويسعدني في المنظر ولا أترك النافذة إلا بعد أن ينتهي المشهد كاملا. وقد عادت إلي ذكراه حادثة كانت تودي بحياتي. كنت أسير في شارع قريب من بيتي أردتي ثوبا أحمر جديد. أتراقص وأنا أسير فرحة مسرورة. وتسير خلفي جاموسة ضخمة. وفجأة بدأت الجاموسة تجري خلفي وأنا أجري خائفة مذعورة وهي تكاد تصل إلي. أسرعت الخطي لاهثة خوفا منها وهي تسرع ولا أدري لماذا تطاردني أنا بالذات. ووجدت أمامي بابا مفتوحا ولفت إليه محاولة الاحتماء به من هذه التي تطاردني؟ ورأيت داخل الدار أهله جالسين. تعجبوا من جريي ووجدت سلما بدأت أصعد درجاته والجاموسة تحاول أن تصعد الدرجات مثلي تطاردني. وقبل أن أفقد الوعي من الخوف والجري هب أصحاب الدار واقفين بيني وبين هذه الجاموسة التي تحاول أن تفتك بي. لا أدري ما حدث فقد تواجدوا بينها وبيني ولا أدري كيف منعوها من أن تستمر في مطاردتي.
وهدأ الفلاحون من روعي. وحملني أحدهم علي كتفيه وأعادني إلي بيتي معتذرا. في البيت عرفت أسرتي ما حدث وسألت الرجل عما حدث, ولماذا حاولت الجاموسة مطاردتي وإيذائي وشرح الرجل أنها ربما آثارها اللون الأحمر للثوب الجديد الذي كنت ارتديه. وربما آثارها جريي, فبدأت تجري هي بدورها. ولم أكف عن البكاء طوال اليوم ولم أرتدي ذلك الثوب الأحمر مرة ثانية ورفضت النزول إلي الشارع تماما. وكلما رأيت جاموسة أو أي حيوان آخر أترك النافذة خائفة مع أنني بعيدة تماما عن الخطر. وظل هذا الخوف يطاردني حتي بعد أن تركت الريف, ولم أعد أر هذه الحيوانات إلا نادرا. وتذكرت ما حدث معي في طفولتي عندما شاهدت جاموسة يقودها رجل قوي في طريقها إلي المذبح. عادت إلي كل مخاوف الطفولة التي ظننت أنها انطوت وانتهت وضاعت من الذاكرة. لكن لم يلصق في الذاكرة في الطفولة لا يضيع أو ينسي أو ينمحي. لقد كرهت الجاموسة ومازلت أكرهها رغم مرور سنوات طويلة علي ما حدث.