بعد أن عرف أخي الصغير كيف يأكل بمفرده, دون أن يلوث ثيابه.. أو يلحس أصابعه!.. وكيف يفتح الثلاجة, دون أن يشب علي قدميه, ويذهب إلي البقال ليأتي بما يطلبه والداه.. ويقدم لقطته ما كان ينبغي أن يأكله, ويرقدها علي سريره لينام علي الأرض!
وبعد أن تعلم كيف يركب دراجته بمفرده, بين بسمة أبي القلقة وبهجة أمي المختلطة ببعض الحذر, وبعض الدموع.. وعرف كيف ينام, دون أن تدلك ظهره الناعم, أو تلهيه بحكاية ملتوتة, فتقبل شعره المصفف وهي تغطيه, فيفرق زفيرها المضطرب بعض الشعيرات الناشزة, ولا تتركه قبل أن تسأله سؤال الحياة:
- حلوة ولا ملتوتة؟
وحين لا يرد تعرف أنها حلوة, فتغلق الباب باطمئنان.. ويعرف أنها ملتوتة فينام!!
قبل أن يعرف كل ذلك.. كان قد عرف النار حين لسعته.. والكهرباء حين صدمته, وخطورة الكلاب حين عقرته, وشراسة القطط حين خمشته! ثم عرف سواء السبيل حين تاه.. وفداحة المرض حين ابتلاه.. وأن أصل الوجود: هو الموت.. لا الحياة!
فحين خرج – بمفرده لأول مرة, رأي الإنسان يسعي ويستعدي.. ورآه يمنح ويستجدي.. ورآه يصارع الموت في مستشفيات.. ويطارد فيلة في مستنقعات, ورآه يضحك ويبكي.. يداهن ويستكين, يحبو ويجري.. يزحف ويطير.
ثم رآه يحمل علي ثدي, وينقل في تابوت!!
وفي التليفزيون رأي البحار والبيادر, والثلوج والبنادر, ورأي من يتربص بأخيه.. ومن يجري وراء كرة.. ومن يجري أمامها.. ورأي من يطير ويسبح, ومن يحنو وينطح ومن يعفو ويذبح!! وعرف أن الطير لا يحاكيه سوي الطير.. وأن قدر المرء – ولطف الرب – ألا يطير!!
ثم جاءته الإجابة: فعرف أن المرء عبد ما يعرف, وسيد ما يستطيع, وأن من لا يعرف العوم لابد أن يغرق.. ومن لا يعرف الضفاف لابد أن يضيع, وأن توم وجيري مجرد دمي يصنعها من يطيرون, وأن قدر المرء أن يتبع ظله.. قبل أن يتبعه ظله!
وحين حمل حقيبته وذهب – منفردا – إلي الحضانة, لم تكن الغيوم قد هطلت, ولا الكلاب نامت.. ولا النجوم انفطرت.. لكنه استطاع أن يعود, وقد تملكته السعادة, وشعر أنه قد بات رجلا.. ولم يمض يومان حتي ابتاع حافظة نقود بكل ما يملك, فلم يجد ما يضعه فيها!
كانت سعادته تتضاعف حين يسحبها – أمام الأولاد – من جيبه الخلفي وكأنه يوشك أن يعطيهم مصروفهم اليومي, وفي العيد اشتري دبة قماشية ثم سمعناه يلعب بها مع جارتنا الصغيرة لعبة الحياة! ثم سمعناه يخرج عن النص, ويضربها لأنها تأخرت في إعداد الغذاء, أو لأنها زودت الملح حبتين فإن أكدت – وهي تمسح دموعها المدرارة – أنها لم تزوده كما يدعي.. ضربها ثانية لأنها لم تزوده كما ينبغي!!
كان الكبار في الخارج يتبادلون القصف, ويسحقون بأحذيتهم السوداء ما خلفه الندي حين رأيناه يغادر بيته الورقي وهو ينفخ, ويضج بالسخط واللعنات.. لأنها لم ترضع الدب الذي اشتراه بكل ما يملك. وما أن تتعلل بكثرة الأعمال, وضيق الوقت, حتي يضرب الأرض بقدميه, ويكاد يرمي عليها يمين الطلاق.
ولا يلين قلبه قليلا إلا حين يري دموعها تسح علي وجهها الأثيل, فيخلع نظارته المعتمة وهو يشعر بدوار خفيف ويدرك – مؤخرا – أنه لم يكن يري بها أي شئ!
فيما كان الكبار – الذين لا يعرفون الزهور – يلهون بدباباتهم الرعناء.. فيسقط بشر, وتسقط أشياء.. وعلي مشارف المدينة تتناهي أصوات المدافع, فتتسع المسافة, بين المهاجم والمدافع.
وحين أراد أخي أن يعرف ما يجري صاح فيه صائح.. وناح نائح.. فتذكر زوجته المنتظرة وقرر أن يصالحها بوردة – كانت تكفي كلمة – وليلعب كل بما يملك, وفي نطاق ما يعرف ويستطيع غير أنه ما كاد يعبر الطريق إلي الزنابق, حتي سحقته دبابة كبيرة من تلك التي يلهو بها الكبار في الخارج.
فضاقت العبارة, وانسحبت أضواء الدنيا وضوضأوها.
فيما ظلت الزوجة الصغيرة المسالمة.. تنتظر وردته الجميلة.. أو حتي كلمته الأخيرة!!