بدت ميار في جاذبيتها كشجرة الورد التي ارتوت بمياه الأخلاق… فنمت جذورها في الأرض… تشعبت وازدادت صلابة… انطلقت روحها تسمو وترتفع مع الأغصان المورقة… فأثمرت زهرة ندية تفوح شذا عذبا… التف حولها الشباب يريدون أن يرتشفوا رحيقها… فأبت وانطلقت روحها تعدو كمهرة حرة قافزة فوق حواجز الكذب والخداع… حتي أشيع بأن جمالها وعذوبتها يكمن وراءهما قلب من الحجر الصوان… ولم يع أحد أنه قلب يبحث عن الزمان… قلب عشق الحب… ويرفض التسلية واللعب… قلب كواه اليتم حينما تربص الموت بوالدتها واقتنصها في شباكه وهي في ريعان شبابها تاركة خلفها زوجا مكلوما وطفلة لم تكمل عامها العاشر بعد… طفلة ظلت أياد كثيرة تتقاذفها لترعاها أثناء غياب والدها في عمله, إلي أن ركلتها أقدام القدر في حضن مربية فاضلة محرزة بها هدف الفوز علي التشتت والضياع قبل أن يقضي علي نفسيتها ومستقبلها.
وتفتح عقل ميار كأزاهير الصباح بين صفحات الكتب… فعشقت الحروف… ولعت بالكلمات… وعاشت بين طيات الكتب التي غاصت في بحور أفكارها فخرجت منها كنوز المعرفة التي أنضجت عقلها وأصقلت شخصيتها… ولم تعشق أناملها الرقيقة فقط ملمس الكتب بل عشقت أيضا أن تداعب أوتار جيتارها منذ طفولتها… فخرجت منه أنغام ساحرة سحرت قلبها ونقت سريرته من أقذار الأرض… فسمت روحها وحلقت في عنان السماء كعصفورة جميلة طليقة لم يأسرها في يوم ما سجن الرغبة أو شباك الخديعة كغيرها من الفتيات… فباتت حلما لكل صياد ماهر يريد أن يقتنصها بين أيادي الرذيلة… والإيقاع بها من سماها العالية إلي الأرض الموحلة باسم الحب… تلك الكلمة التي عرفت ميار قيمة حرفيها المذبوحين بين أنياب الكذب… والمسحوقين بين رحي القلوب الحجرية التي ترتكب باسمهما جميع الرذائل وهما منها أبرياء.
أما تامر ذلك الحصان الجامح الذي يخفي دناءة خلقه تحت سرجه المزخرف بالكلمات الناعمة والوعود الحالمة غايته أن يعدو خلف الفرسة الجميلة الحرة التي لا يكبلها لجام الهوي حتي يلحق بها ويسقطها في بحر رغباته القاتلة كالرمال المتحركة خانقا إياها حتي الموت… وقد شاءت أقدار ميار التعسة أن يعجب بها تامر عندما رآها جالسة مع صديقتها في الحرم الجامعي… وأن يزج بها في لعبة تحد بينه وبين أصدقائه عندما لاحظوا نظراته لها وسخروا منه لأنهم يعرفون عنها أنها كالطير الشارد لا يستطيع أن يلحق به جواد… وكبساط ريح لا يعلوه سندباد… لذلك قرر أن يعقد معهم مقامرة… وبدأ يفكر كيف يحبك عليها المؤامرة؟ ومن أين نقطة انطلاق السباق… وكيف يسبي قلبها بالأشواق؟
عرف تامر بخبرة القناص أن الصيد الثمين يحتاج إلي تمهل وصبر ودراسة دقيقة لقوة الفريسة ومواطن ضعفها فبدأ يجمع عنها معلومات ويراقبها عن بعد حتي استعد بالعتاد اللازم للانتصار في المعركة… معركة الحب والرذيلة… معركة الشر والفضيلة… معركة يعلم مسبقا أن النصر فيها سيكون حليفه, وأن فريسته أضعف بكثير من الوحش المتربص بداخله.
وبدأ يخطط للحظة لقائه بميار التي بدت كصدفة عن طريق أحد الأصحاب المشتركين… فسلم عليها دون أن يظهر إعجابه بها, لأن مثل هذه الفراشات لا تنجذب للشموع المضاءة بالإعجاب لأنها اعتادت عليها بل وزهدتها… إنما ما تلتفت إليه هي النظرات المظلمة بالفتور واللامبالاة والمشبعة بالغموض وعدم الاكتراث… حقا فالاختلاف غير الائتلاف يلفت الانتباه ويثير القلب والفكر معا.
هكذا أيقن تامر وكان في يقينه علي حق… فلفت نظرها عدم اكتراثه بجمالها… ولم تر في عينيه تلك النظرة التي اعتادت عليها… وأحست أنه مختلف وهذا الإحساس كان بداية نجاحه في تسلق الدرجة الأولي في سلم الوصول إليها.
وبدأ تامر يتصنع الصدف ويزيد من فترات لقائهما تدريجيا حتي لا تكتشف أوراق اللعبة… وبدأ يظهر لها شخصيته المزيفة وإعجابه بنفس الأشياء التي تحبها واعتناقه لنفس أفكارها… فاستسلمت ميار إلي ذلك الشعور الذي احتواها… وأحست به ينساب في أعماقها يتخلل برفق قلبها… يتسلل داخل وجدانها… يأسرها… يسبي كل حياتها فحين تجلس بمفردها تتذكره… تري صورته تفوح شذي عذبا… فما أرق كلماته… ما أجمل ابتساماته… فتجد بين شفتيه الحنان والحب… حتي بدي لها كحلم لا تريد الاستيقاظ منه ولم تعلم أن الذي يبدو لها كفارس أحلامها ما هو إلا خيال يعشق الفرسة الجميلة المتمردة ليحكم لجامه عليها ويسيرها طوع إرادته… ولم تر براءتها وقلة خبراتها ذلك اللعاب الذي يسيل من فرط شهوته في الانقضاض علي فريسته منشبا مخالبه المتوحشة في قلبها حتي الموت.
فاستيقظت ميار من هذا الحلم العذب علي خنجر مسموم… فالقبلة التي أذاقها لها وتلك الكلمات الناعمة التي سكبها في أذنيها… وتلك النظرات المشتعلة بنار الرغبة والفتنة كل هذه اجتمعت في لحظة واحدة لتداعب مشاعرها ليتسلل الحب إلي قلبها ليضعفه ويتسلل تامر إلي جسدها لينهشه بين مخالبه, ولكنها أيقنت هذا في الوقت المناسب… وأدركت أن كلماته الجميلة الناعمة تخفي وراءها أنياب وحش مفترس يريد أن يفتك ببراءتها فلم تترك نفسها لأرجوحة الهوي سعيدة لاهية وارتفعت فوق ضعف الحب… ورفضت بشدة كل محاولات إغرائه لها ورحلت بعيدة عنه… وهي كافرة بكل معاني الحب والوفاء… وبات قلبها المشرق ليلا طويلا لا يعلوه نهار… وامتلكها الحزن وهي تنظر بين الحين والآخر إلي ذلك القلب الأسفنجي… الذي كان قد أهداه لها فتحتضن قطيفته الحمراء بشدة لتفرغ فيه هذا الكم من الحب والحرمان… وفيما هي ناظرة إليه… إذا بها تري وجه حبيبها مرسوما علي ذلك القلب ضاحكا علي سذاجة قلبها الذي صدق أن مازال هناك حب يحمي ويصون… وليس يفتك ويخون… تخيلته يقول لها نبرات ساخرة:
كم أنت ساذجة لأنك لم تكتشفي أن قلبي كالزئبق عندما تريدين أن تمسكي به يفر هاربا من بين أصابعك… وأن حبي ليس إلا كقطرة المياه في اللحظة التي تحسين أنك امتلكتيها سرعان ما تجد نفسكي قد قبضت يدك علي سراب… وما أنا بالنسبة لك إلا شعاع شمس أضاء ظلمات قلبك المظلم فابتهجت نفسك,وحينما أردت أن تطوي يديك لتضمنه إلي حضنك فوجدت نفسك وقد احتضنت الوهم.
ومن هول ما سمعت أخذت ميار تمزق ذلك القلب الذي احتفظت به شهورا طويلة… وتمزق معه مشاعر الخيانة,وعندئذ أحست بالحياة تدب من جديد في قلبها.