زحف الظلام تدريجيا وكسا الأرض بحلته المهيبة..لكنه أخفق في أن يكسو قباب الكنيسة بلباسه الوقور..فقد تناثرت بعض خيوط من النور الخافت علي طرقات الكنيسة الخارجية المغطاة بأوراق الشجر الجافة,بينما كانت بعض الشجيرات الصغيرة تتمايل تعلن ضعفها في مواجهة ريح خفيفة تداعب كل ما هو في طريقها.
هذا في الوقت الذي كان شاهدوهذا كان اسمهيوقف سيارته في فناء الكنيسة وبالقرب من بيت لحمبيت القربان.أما الساعة فقد حققت الدورة الأولي بعد منتصف الليل.وهذه هي عادة الأستاذ شاهد,مساء كل ثلاثاء من كل أسبوع,فهو المكلف بعمل القربان لقداس الأربعاء الذي يبدأ في السادسة صباحا,ولكنه للأسف لن يستطيع المشاركة في صلاة القداس ذلك لأن عمله يبدأ في نفس الساعة.
وما أ ن أبطل محرك سيارته وقبل أن يهم بالخروج منها ألقي بنظرة عميقة وبعيدة ذهبت به إلي أيام,مضت عليها سنون طويلة تفوق الأربعين سنة.فقد تذكر أيام طفولته وهو يلعب مع صديقه بسيط في فناء الكنيسة الذي كان يلازمه كل وقت داخل الكنيسة وخارجها,حتي أنهم تدرجوا معا في كل مراحل الدراسة لكن بسيط لم يكن جادا مثل شاهد..بل كان يلهو كثيرا..وكثيرا ما أخذته الأيام بعيدا عن الطريق في الوقت الذي كانت عيونشاهدتذرف الدمع حزنا علي بسيط,وعلي سلوكه لكن الرب افتقده بطريق لم يخطر علي بال أحد ولا شاهد نفسه فقد ترهبن بسيط…ترك كل شئء وأخذ طريق الرهبنة يكمل به حياته في أحد أديرة صعيد مصر..ذلك منذ أكثر من 20 عاما.آه…كم من السنين مضت هكذا أطلق شاهد زفرة مليئة بعبء السنين وعاد يرفع عينيه ليري القباب عالية وهي تحتضن الكنيسة وتضمها تحت جناحيها تحميها من تيارات الفكر العالمي التي تبحث عن ثغرة تدخل بها محاولة تفتيتها من الداخل,ولكنه قال:إن أبواب الجحيم لن تقوي عليها.
وبعد أن ترجل شاهد من سيارته وطأت قدماه أوراق الشجر الجافة لتحدث صوتا عاليا تزيده رهبة وإجلالا للمكان الهاديء الشيء الذي يجعله أكثر وقارا واحتراما..ورغم أن الكنيسة كانت خالية من المصلين إلا أن شاهد يؤمن أن بيت الرب دائما مملوء بالحراس يحرسونه من محرس الصبح إلي الليل فأخذ يردد (مزمور 121) من صلاة الغروب:فرحت بالقائلين إلي بيت الرب نذهب..وقفت أرجلنا في ديار أورشليم..أورشليم المبنية مثل مدينة متصلة بعضها ببعض.
ثم يتلو المزمور الرابع عشر يارب من يسكن في مسكنك أو من يحل في جبل قدسك إلا السالك بلا عيب…الفاعل البر والمتكلم بالحق في قلبه.
وهكذا أخذ شاهد في ترديد بعض المزامير التي كلن قد حفظها منذ نعومة أظافره,بالإضافة إلي المزامير التي كان يحفظها أثناء خدمته لعمل القربان.وهذا ما أحبه في هذه الخدمة فهي-وإن كان الجميع يعرفون أنه أحد الذين يقومون بعمل القربان في الكنيسة-إلا أنها خدمة خالية من حب الظهور وكلمات المديح..ثم قارب شاهد بخطواته الحثيثة لباب الكنيسة الذي أدلف مفتاحه فيه,ليدخل ويسجد أمام الهيكل ويصلي صلاة سريعة,ثم يسلم ويتبارك من أيقونات القديسين وسرعان ما يهم بالخروج ليتوجه لبيت لحم حتي يبدأ في عمل القربان الذي يحتاج شيئا من الوقت والتأني وقراءة المزامير..وما أن دنا شاهد من المكان حتي سمع أصواتا غريبة لم يسمعها من قبل صادرة من بيت لحم فتسمرت قدماه وأخذ يرشم علامة الصليب ويردد ذاكرا اسم يسوع يارب يسوع المسيح ابن الله الحي ارحمني..ياربي يسوع المسيح ابن الله الحي اغفر لي..ياربي يسوع المسيح ابن الله الحي أعني..ولكن الأصوات بدأت تعلو شيئا فشيئا وبدأ شاهد يميز ماذا تقول!!!
ألقي بنظرة من بعيد خلال نافذة في باب الحجرة,ثم وجد شيئا عجيبا وصرخ صرخة مكتومة…يا إلهي..يارب يسوع المسيح..ما هذا الذي أري..ليتمجد اسمك العظيم يارب..!
انعقد لسانه عن النطق من هول ما رأي وانسحبت أنفاسه في صدره..كان بيت القربان كله مليئا بالنور الشديد وفي وسطه مجموعة من الملائكة بأجنحتهم المنيرة تضرب في الهواء دون أن تصطدم ببعضها البعض ووجوههم مليئة بفرح وسرور لا يوصف,وأصواتهم صوت تسبيح قدوس قدوس قدوس…لم يسمع به من قبل.ثم أخذ النور في الشدة إلي درجة لم يستطع شاهد أن يفتح عينيه وبالفعل أغلق شاهد عينيه وأخذ يردد معهم قدوس هو اسمك حلو في حلقي محبوب هو اسمك يارب..فهو طول النهار تلاوتي..أنا اشتاقت نفسي إليك..كما تشتاق الأيل إلي جداول المياه..من ينظر إلي بهاء مجدك..واحدة سألت من الرب وأياها ألتمس,أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي..لكي أنظر نعيم الرب وأتفرس في هيكله المقدس..ما أعجب اسمك يارب..تشتاق وتذوب نفسي إليك..أنا تراب والإله العظيم يسكن في وسطنا..ومن أنا يارب حتي تتراءي لي عجائبك..إني مسكين وفقير..لم أفرز من بطن أمي لأنال نعمة خدمتك ..أنا يارب البائس الذي يحيا في المزبلة..وأنت أقمتني..أنا المزدري وغير الموجود..أنا الحقير الذي يتجرأ ويذكر اسمك القدوس..حقا يارب ما أعجب حبك.لا..لا..لا..يارب نفسي الضعيفة أشقي من أن تحتمل عظم محبتك للبشر.
وطفق شاهد يصلي ويهلل ويسبح ولم يشعر كم من الوقت مضي عليه وهو في هذا السبي العجيب,ثم فتح عينيه ليجد نفسه ساجدا علي ركبتيه داخل بيت لحم والباب مغلق,ولكن الغرفة مظلمة فأخذ يتحسس طريقه ليصل إلي مفتاح النور وهو لايعرف كيف دخل,ولم يفكر في الأمر فكل حواسه كانت لاتزال مشدودة من هذه الرؤيا.حتي أنه لم يسأل نفسه: هل هو نائم أم يقظ؟..كل ما يعرفه ويشعر به في هذه الساعة إن يديه بدأت في عمل القربان, ولكن لسانه لم يفتر عن ترديد ما يجول في ذهنه..تارة يصلي وتارة يردد المزامير, حتي أنه ردد بعض منها لم يكن قد حفظها من قبل وكأن روحه أخذت قدرا من المعرفة السمائية والموهبة الفوقانية في زمن بسيط بسيط جدا..وتذكر صديقه بسيط مرة أخري سائلا نفسه: أين أنت يا بسيط تعال لتري نفسي الحقيرة وقد تراءي لها قبس من المجد السماوي..أنت الذي أعطيت كل شيء,حياتك بأكملها وذاتك ولم تضيع الوقت وذهبت لتنال الحب الإلهي كله وتتمتع به..ذهبت لتختلي به ترفع الأيادي وتحني الركب ليلا ونهارا وتبدأ حياتك الأبدية معه وأنت بعد علي الأرض…ولكني أنا الضعيف لم أفعل شيئا يستحق الذكر..ولكنه لا ينسي أحد..فقد افتقدني في مراحمه وأشفق علي مسكنتي…وأخذ يردد:تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين..لأنه عن يميني لكي لا اتزعزع..من أجل هذا فرح قلبي وتهلل لساني.
وهكذا دارت الخواطر في نفس شاهد تذهب وتجيء تعصف به وتشجيه..تفرحه وتثلج قلبه..وذرف دمعا كثيرا وتصبب وجهه عرقا..واختلط الاثنان معا علي وجهه..وتساقطت حبات مزيج من العرق والدموع..وحان وقت تسوية القربان خبزهوكان شاهد قد أعد الفرن اللازم لذلك حتي تكون حرارته كافية ومناسبة لطريقة تسويته..فأهم شيئين في عمل القربان الحرص علي الاستدارة الكاملة للقربان رمز للانهائية,وأن يكون بلا عيب رمزا لأنه حمل بلا عيب.ذلك غير أشياء كثيرة في ذات الأهمية كان شاهد عبد المسيح يحفظها عن ظهر قلب ويحاول قدر استطاعته أن يتقنها ليأخذ بركة صنع القربان وحفظ المزامير,فهو يعرف أن الكتاب المقدس يقول ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة ثم لاحت منه التفاتة سريعة داخل الفرن فوجد ملاكين صغيرين بأركان الفرن من الداخل,وكأنهما يستعدان لمصاحبة القربان عند تسويته ..وهنا سالت دموع شاهد مرة أخري,ولكنها مع ابتسامة خفيفة تعلن علمه أنه من خاصته ومن الذين قبلوه,ورغم أن المشهد مهيب سارع شاهد في إتقان كل عمل وكل مرحلة من مراحله حتي يحسن الصنع .
وبدأ أول ضوء للفجر يلوح في الأفق وأخذ النور يعلو الأرض ليعلن سيادته علي الظلام وليدرك كل أحد أنه لا شركة للنور مع الظلمة وليبدأ نهارا جديدا ويوما جديدا في الوقت الذي أنهي شاهد عمله,وأدخل القربان في الطبق المعد له ليختار منه الحمل لعمل القداس وأغلق باب بيت لحم بعد أن أعاد كل شئ إلي مكانه في نظافة وترتيب,وما أن ابتعد قليلا حتي سمعها في الليلة الماضية وابتسم وتعزي قلبه كثيرا ..وشعر بالاطمئنان والسلام يعما كل كيانه وعزم في قلبه علي الثبات في إيمانه المقدر له حتي اليوم الأخير لكي يري ما لم تره عين ويسمع ما لم تسمع به أذن ما أعده الله للذين يحبونه!!!
ثم طفق يسبح بالمزمور 112 سبحوا الرب أيها الفتيان..سبحوا اسم الرب..ليكن اسم الرب مباركا من الآن وإلي الأبد.. من مشارق الشمس إلي مغاربها باركوا اسم الرب..الرب عال علي كل الأمم وفوق السموات مجده..من مثل الرب الهنا الساكن في الأعالي والناظر إلي المتواضعين في السماء,وعلي الأرض المقيم المسكين من التراب والرافع البائس من المزبلة لكي يجلسه مع روساء شعبه الذي يجعل العاقر ساكنة في بيت أم أولاد فرحة..هللويا.