شكل خرق جدار برلين في 9 نوفمبر رمزا دراماتيكيا للحرية التي استعيدت في تلك السنة العجائبية 1989, حينما أصبح الأمر الذي لم يكن من الممكن تصوره في الحياة السياسية في أوربا الوسطي كما لو كان أمرا روتينيا. شارك الملايين من الناس في أوربا الشرقية والوسطي في مظاهرات سلمية ضد أنظمة الحكم القائمة وبدت الشيوعية وكأنها تتلاشي. ابتهج الكثيرون في العالم, ولكن بالنسبة للأمريكيين كانت لنهاية ذلك الانقسام الرهيب في برلين أهمية خاصة. خلال نصف قرن, كانت الولايات المتحدة, انسجاما مع سياستها في الاحتواء, تؤمن الحماية لحرية سكان برلين الغربية, وفي الواقع لحرية الألمان الغربيين, بطريقة أو بأخري. وبصورة تدريجية وتبادلية كان الأعداء السابقون قد أصبحوا أصدقاء أعزاء.
يجب أن نلقي نظرة سريعة علي من أين أتت فكرة هذا الجدار. نتيجة الانتصار الذي حققته في عام 1945, قامت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمي بتقسيم ألمانيا إلي ثلاث (وإلي أربع, مع فرنسا لاحقا) مناطق احتلال علي أن تكون برلين مركز مجلس المراقبة للحلفاء والذي عهدت إليه مسئولية وضع السياسات الرئيسية في جميع مناطق الاحتلال. كانت منطقة احتلال الاتحاد السوفيتي تحيط بالعاصمة السابقة لألمانيا, وهكذا أصبحت برلين, المقسمة نفسها إلي أربعة قطاعات, جزيرة في بحر أحمر. وحدة الحلفاء, التي كانت قد تعرضت للخطر بسبب تحركات السوفيت في أوربا الشرقية عام 1944-1945, انتهت بصورة تدريجية إلي حرب باردة, لم يكن يرغب في حصولها أي طرف, إلا أن كل طرف ساهم في تطورها. بحلول عام 1948, بعد أن استولي الشيوعيون علي السلطة في تشيكوسلوفاكيا التي كانت صامدة كديموقراطية, تخلي الحلفاء الغربيون عن أي أمل في تحقيق تعاون ناجح مع الاتحاد السوفيتي في ألمانيا وقاموا بما كان يجب أن يعتبر, بالنظر إلي الوراء, استعدادات حكيمة لإنشاء كيان سياسي ديموقراطي في ألمانيا الغربية. وعندما أيد الحلفاء في يونيو 1948 أيضا إصدار عملة ألمانية جديدة (حتي في برلين الغربية), وهي المارك الألماني, رد الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين بفرض حصار كامل علي برلين الغربية صمم افتراضيا لوقف تنفيذ الخطط الغربية الهادفة إلي إنشاء دولة ألمانيا الغربية, أو علي الأقل, لفرض الحكم السوفيتي علي كامل المدينة. قررت الولايات المتحدة وبريطانيا بغية تجنب حصول مواجهة عسكرية اتباع طرق بديلة جريئة: تزويد سكان برلين الغربية الذين كان عددهم مليوني نسمة تقريبا بالمؤن من الجو. كانت عملية التموين الجوي تأكيدا ذكيا للقوة الإنجليزية -الأمريكية المستخدمة سلميا ولغايات ديموقراطية. كان بإمكان الأمريكيين في هذه العملية مكلفة الاعتماد علي صبر سكان برلين الغربية بقيادة زعيمهم من الحزب الديموقراطي الاجتماعي, رئيس البلدية إرنست روتر, أول سياسي ألماني بعد الحرب يثير إعجاب الشعب الأمريكي. في مايو 1950, وافق السوفيت علي إنهاء الحصار مقابل مكافأة رمزية. كان ذلك نصرا سجله الحلفاء الغربيون في وقت كان قد ضعف فيه انتشارهم العسكري: بحلول عام 1948, كانت معظم القوات الأمريكية في أوربا قد عادت إلي الوطن بينما بقي الجيش الأحمر متمركزا في جميع أنحاء أوربا الوسطي.
بقيت برلين الرمز والنقطة الأقصي خطورة خلال الحرب الباردة, واستخدمت ككوة لهروب الألمان الشرقيين الذين أرادوا تغيير حياتهم من واحدة كانوا يعيشون تحت سيطرة ديكتاتورية تعاني من الضعف الاقتصادي إلي أخري ينعمون فيها بالحرية وإمكانية الحركة في ألمانيا الغربية, التي كانت تتمتع آنذاك ##بمعجزة اقتصادية## وباقتصاد سوق يتسم بالمسئولية الاجتماعية. (عززت مساعدة الحلفاء الغربيين استعادة ألمانيا الغربية لعافيتها الاقتصادية بينما ساهمت طلبات التعويضات الحربية للسوفيت من ألمانيا الشرقية في إضعاف ذلك الاقتصاد المرهق أصلا والخاضع لسيطرة الدولة). أدرك الرئيس جون إف كينيدي (1963-1961) بنفسه أن هذا المخرج المفتوح الوحيد من برلين الشرقية الشيوعية إلي برلين الغربية يمثل خطرا حقيقيا علي نظام الحكم في ألمانيا الشرقية, كما أدرك أيضا, كما قال في وقت كارثة خليج الخنازير (عملية غزو فاشلة لكوبا دعمتها الولايات المتحدة, و قام بها منفيون من نظام كاسترو) والخوف من انتقام سوفيتي, إنه في حال اندلاع حرب عالمية ثالثة فإنها سوف تبدأ في برلين. كما أدرك خليفة ستالين, نيكيتا خروتشوف المتقلب المزاج, أن الخسائر الديموجرافية لألمانيا الشرقية كانت لا تحتمل بالنسبة لنظام الحكم في ألمانيا الشرقية, والذي كان يلح باستمرار علي الاتحاد السوفيتي لاتخاذ إجراءات قاسية لإغلاق ذلك المخرج.
في 1960-1961, نما تدفق اللاجئين من ألمانيا الشرقية بدرجة تنذر بالخطر, وأصبح واضحا وجوب وقف هذا النزيف الديموجرافي. في 13 أغسطس 1961, أقام الألمان الشرقيون, بمباركة من الاتحاد السوفيتي أخيرا, جدارا متقنا بشعا قسم المدينة بالنصف, تاركا سكان برلين الغربية أحرارا, ولكن محاصرين ومفصولين في أحيان كثيرة عن الأصدقاء والأقرباء, وبقي سكان برلين الشرقية مقيدين بصورة دائمة خلف ما كان يسمي رسميا في الكلام المخادع النموذجي, جدار ##مقاومة الفاشية##. كان الرد الأمريكي الفوري معتدلا نسبيا ومخيبا لأمال ويللي براندت, رئيس بلدية برلين الغربية الشاب, ولسكان برلين الغربية بوجه عام. أصبحت كل من برلين الشرقية وبرلين الغربية الآن مكاني استعراض ومنافسة لنظامين سياسيين متنافسين. وازدهرت برلين الغربية بفضل المساعدات الأمريكية المتواصلة العامة والخاصة يحميها الوجود العسكري الرمزي لقوات عسكرية حليفة. ومع مرور الوقت, تخلصت برلين الشرقية من كآبة الستالينية ولكن فيما يخص رفاهيتها المادية, هذا إذا لم نذكر شيئا حول القمع الذي تحملته في مجتمعها الخاضع لسيطرة جهاز الاستخبارات الألمانية الشرقية (الستاسي), فإنها ظلت كيانا سياسيا فقيرا وإن كان يتطور.
ظل جدار برلين يذكر القادة الغربيين وأعدادا كبيرة من الألمان الغربيين بالتقسيم غير الطبيعي لألمانيا ولكنهم قبلوا به ضمنيا وركزوا اهتمامهم علي إنشاء ##المجموعة الأوربية##. واكتفت القوي الغربية بالتفاوض حول إجراءات لتخفيف حدة الحرمان المتزايد الذي فرضه الجدار. أصبح الانفراج مع الاتحاد السوفيتي أكثر ما يأمل الغرب بتحقيقه, واتخذت هذه السياسة أشكالا مختلفة. في عام 1975, وقعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون والاتحاد السوفيتي علي اتفاقات هلسنكي. أكد أول اتفاقين حصانة الحدود القائمة, وبذلك أضفي الشرعية علي التغييرات الحدودية الواقعية التي أجريت بعد انتهاء الحرب في أوربا الوسطي, بينما نص القسم الثالث, الذي يسمي بصورة عامة ##السلسلة الثالثة##, علي وجوب أن يحترم كافة الموقعين حقوق الإنسان الأساسية والحقوق المدنية لمواطنيهم. وأدي تشكيل منظمة الأمن والتعاون في أوربا (OSCE) الناتج عن ذلك إلي حصول الاتحاد السوفيتي علي ضمانات مهمة. أما بالنسبة إلي ##السلسة الثالثة##, ففي حين أن عددا قليلا من الزعماء السياسيين من الجانبين أدركوا في بادئ الأمر إمكانية هذه الفئة في إلهاب العواطف, لا بد لنا أن نتذكر, ولا سيما لكي نفهم ما جري عام 1989, أنها منحت إلي الحركات المنشقة في أوربا الشرقية وفي الاتحاد السوفيتي تشجيعا معنويا كما بعض الحماية القانونية.
حطمت الدبابات السوفيتية مرارا وتكرارا مظاهرات الاحتجاج العنيفة ضد أنظمة الحكم التي تدور في فلكها, في ألمانيا الشرقية عام 1953, وفي كل من بولونيا والمجر في عام 1956, وفي تشيكوسلوفاكيا في عام .1968 ولكن في أعقاب اتفاقيات هلسنكي أصبحت مجموعات المنشقين الهادئة, والبطولية, وغير العنيفة, كما ظهر ذلك من خلال ميثاق هافل لعام 77 في تشيكوسلوفاكيا, قوة أعظم بكثير ضمن الدكتاتوريات السوفيتية. هنا ظهرت بدايات مجموعات مدنية مشكلة من الأسفل, مشبعة ربما بشعور ما أسماه هافل لاحقا ##قوة الذين لا قوة لهم##. ولكن بالرغم من الإعجاب والأهمية التي حصلت عليها هذه المجموعات فإنها لم تكن تستطع أن تغير الظروف القمعية. كان من الضروري, من أجل تحقيق ذلك, إحداث تغييرات في القمة, وقد حصلت هذه التغييرات مع الظهور المذهل وربما التاريخي غير المسبوق والمتزامن لقادة روحيين وسياسيين أدركوا التأثيرات المميتة للحياة في حالة من الركود, أي دون حرية, ودون إبداع وفي حالة من الفقر.
حتي الشيوعيون أنفسهم, ارتدوا عن اليد المتصلبة لموسكو: في عام 1975, ركز قادة الأحزاب الشيوعية الكبيرة في إيطاليا وإسبانيا انتقاداتهم لموسكو في حركة أطلقوا عليها اسم ##الشيوعية الأوربية##. وفق هذا الأسلوب الجديد, قام الشيوعيون في أوربا الغربية, الذين كانوا في السابق خاضعين للمبادئ الماركسية-اللينينية حتي خلال سيطرة أكثر أشكالها بشاعة, أي الستالينية, بالانفصال عن بعض المبادئ الأساسية للحزب, ووعدوا بالتعاون مع الأحزاب السياسية الديموقراطية, مثلا, وبذلك تخلوا عن المبدأ المقدس تقريبا القائل بأن الحزب الشيوعي يمثل دائما السلطة العليا في أية دولة شيوعية. كان الشيوعيون الأوربيون قد انتقدوا بصورة علنية الاتحاد السوفيتي لغزوه تشيكوسلوفاكيا عام .1965 وربما, كما أعتقد العديد من المحافظين, كانت الحركة الشيوعية الأوربية زائفة ومجرد خدعة. لكنها لم تكن في أحسن الأحوال سوي قشة في مهب الريح.
عانت بولونيا, أكبر دولة تابعة للسوفيت, من تاريخ فريد من العذاب, أولا, تحت الاحتلال الألماني ومن ثم تحت ##التحرير## السوفيتي. تاريخها الأقدم في التقسيم علي أيدي دول أوربية مجاورة ولد لديها شكلها المتحدي الخاص في المقاومة الوطنية. أشعل الفقر الاقتصادي ما بعد الحرب فتيل الاحتجاجات العلنية ضد حكامها الشيوعيين البولونيين وأسيادهم المكروهين في روسيا, وكانت انتفاضات عام 1956 أكبر تعبير علني عن هذه المقاومة, وكذلك الأمر بالنسبة إلي الإضرابات والمظاهرات في عام .1970 ورغم ذلك, فإن القمع المدعوم من الدبابات السوفيتية كان ينجح, كما كان في سائر دول الكتلة السوفيتية.
ثم حدث تغيير دراماتيكي. في عام 1978, تم انتخاب الكاردينال كارول ووجتيلا من كراكاوف بابا للكنيسة الكاثوليكية. بابا بولوني! حدث غير مسبوق في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية, وإشارة أخري ربما بأن التاريخ وصل إلي مرحلة مفاجئة من الانفتاح. البابا يوحنا بولس الثاني, المجرد من أي قوة عسكرية, حشد بصورة فورية تقريبا آمالا جديدة لدي مواطنيه. شدد علي الملايين العديدة من الناس الذين شاهدوه وصلوا معه, عند أول زيارة بابوية له إلي بولونيا, عام 1979, بالقول ##كونوا شجعانا##. أصبح هذا البابا السلطة المعنوية النهائية في بلاده: شخصية ساحرة, شخص إنساني بعمق, وفي نفس الوقت تعززه هالة وأبهة الكنيسة (قمت بزيارة بولونيا بعد شهر واحد من رحلته إليها وكان تأثيره ملموسا جدا). أراد أن يحرر أوربا الشرقية من الحكم الشيوعي الملحد الذي يقتل الروح. أما الشكوك القوية حول المجتمع الليبرالي الغربي التي تكونت لديه فإنها أصبحت أكثر وضوحا في فترة لاحقة.
كانت كافة الدول التابعة للسوفيت, وبالفعل حتي الاتحاد السوفيتي نفسه, تعاني من الحرمان الاقتصادي والتخلف. وكثيرا ما كان التذمر الاقتصادي السبب الذي يشعل الاحتجاجات من جانب الشعوب التي كانت تتلمس طريقها نحو بناء مجتمع مدني. حصلت إضرابات ولكن لم ينذر أي إضراب منها بالخطر أكثر من الإضراب الذي حصل في أحواض السفن لينين في جدانسك الذي بدأ في 14 أغسطس .1980 استدعي زعيم الإضراب, ليش فالينسا, عضو الاتحاد النقابي من وارسو, مع آخرين ممن أيدوا الإضراب, مفكرين هما, برونيسلاف جيريمك وتادويس مازوويكي. برز من لجنة الإضراب ما بين المصانع, والتي قادت حركة الإضراب إلي نهايته في سبتمبر, نوع من الحركة السياسية الوطنية, أي حركة ##التضامن## (سوليدار نوز), وقامت بتحدي ما أصبح الآن نظاما متزعزعا. انطلاقا من ذلك الوقت, عمت حركة ##التضامن## البلاد: أول اتحاد عمالي حر في دولة شيوعية يحكم للمرة الأولي في تاريخ بولونيا ليس علي أساس العاطفة الرومانسية المتهورة, بل من خلال التصرف السياسي الحكيم والرفض المطلق للعنف. مثل العمال والمثقفون المنضمون إلي حركة التضامن الآمال الديموقراطية الاشتراكية القديمة ولبضع سنوات سيطرت هذه الآمال لفترة قصيرة وبالسر. كانت حركة التضامن هي المجتمع المدني في الواقع, حيث ضمت ملايين الأعضاء وشكلت تهديدا لوجود النظام السوفيتي بحد ذاته. في 13 ديسمبر 1981, فرض رئيس الدولة البولونية الجنرال ووجيش جاروزلكسي الأحكام العرفية في البلاد وسجن زعماء حركة التضامن علي أمل القضاء علي الخطر. لكن البؤس الاقتصادي المستمر والإرادة غير المنكسرة للجماهير أجبرت في النهاية الحزب الشيوعي علي تقديم تنازلات, جري التفاوض بشأنها حول طاولة مستديرة ابتداء من فبراير .1989 وأصبح شكل هذه الطاولة بالذات رمزا للمفاوضات السلمية التي أدت, ابتداء من بولونيا, إلي تنازل الأحزاب الشيوعية عن سيطرتها. نتج عن أول انتخابات شبه حرة جرت في بولونيا تعيين مازويسكي أول رئيس وزراء غير شيوعي في دولة شيوعية. مما لا شك فيه أن البابا البولوني كان حاضرا بصورة غير مرئية في هذه التغييرات التاريخية.
ومع ذلك, لم يكن الوجود الحاسم قد برز بعد. في عام 1985, وبعد سنوات من تعاقب الزعماء السوفيات المسنين, تم انتخاب ميخائيل جورباتشيف, الأصغر سنا بين جميع الزعماء الشيوعيين الآخرين, والذي يختلف راديكاليا عنهم, أمينا عاما للحزب الشيوعي. ترعرع جورباتشيف في أحضان النظام السوفيتي وتدرج عبر مسالكه, وامتلك معرفة حميمة لعيوبه المشلة. جاء إلي السلطة حاملا أفكارا جديدة راديكالية مدركا الحاجة الماسة للاتحاد السوفيتي لإجراء الإصلاحات في المجال الاقتصادي (بيريسترويكا) والمجال المدني (جلاسنوست). تخيل أن روسيا الشيوعية بعد إصلاحها سوف تأخذ مكانها في ما أسماه ##البيت المشترك لأوربا##. شكلت سياسته هذه بوضوح انفصالا عن العقيدة الشيوعية حول الحرب التي لا يمكن تجنبها بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي. أدرك جورباتشيف قوة الولايات المتحدة وعرف أن الرئيس رونالد ريجان (1981-1989) ندد ##بإمبراطورية الشر## وبدأ تنفيذ مبادرة الدفاع الاستراتيجي سيئة الحظ, كما كان قد سمع المطالبة المتحدية لريجان: ##دمروا هذا الجدار##. يعود إلي هذين الرجلين الفضل في كونهما توصلا إلي اتفاقات مهمة تتعلق بنزع السلاح في عام 1986 وعام 1987, لأنهما كانا يخافان من محرقة نووية. كما أن جورباتشيف استدعي في عام 1986 عالم الفيزياء الفلكية العظيم ومناصر الحقوق المدنية من منفاه الداخلي في جوركي, في خطوة اعتبرت اعترافا مدويا بالتزامه بالحقوق المدنية. وبعد انقضاء سنتين سحب القوات السوفيتية من أفغانستان وخفض العنصر العسكري في السياسة السوفيتية. منذ البداية تخلي ضمنيا, ومن ثم صراحة, عن مبدأ برجينيف بالتدخل السوفيتي في الدول التابعة عندما يتهدد وجود الحزب الشيوعي فيها. والأمر الذي فتح الطريق إلي عام 1989, كان أمل جورباتشيف بأن تستطيع الدول التابعة أن تجد طريقها الخاص إلي شيوعية يكون قد تم إصلاحها, وتكون متحررة من الوعد أو التهديد بالدبابات الشيوعية. في نهاية المطاف, فشل جورباتشيف كإصلاحي داخل بلاده, ولكنه جعل من الممكن تحرير الدول التابعة للاتحاد السوفيتي من قيود التبعية.
الاضطرابات في الكتلة السوفيتية, والتي أصبحت واضحة في حركة التضامن, ظهرت في كل مكان آخر أيضا, وحتي في جمهورية ألمانيا الشرقية التي استمرت قيادتها المتشددة في خشيتها من أية ميول تحررية (إلي درجة وضع رقابة صحفية علي خطابات جورباتشيف). توسعت بسرعة الاعتصامات الصامتة من أجل السلام, التي بدأت في خريف عام 1989 في كنائس ألمانيا الشرقية, وتحولت بسرعة إلي مسيرات احتجاج سلمية في عدد من المدن الكبيرة. في 9 أكتوبر, سار حوالي 70 ألف مواطن في لايبزيج سلميا حاملين لافتات تقول ##نحن الشعب## ويطالبون بإصلاحات ديموقراطية, وقد قاموا بهذه المسيرة وهم مدركين بأن النظام كان قد حشد الجيوش وأعطي كميات إضافية من الدم إلي المستشفيات المحلية, وكانوا يعرفون, كما يعرف المتظاهرون في أي مكان, أن الأنظمة الشيوعية لا تزال تملك وسائل لتصفية الاحتجاجات. وكما كان ذلك واضحا في مجزرة ساحة تيانانمين في بايجين قبل بضعة أشهر فقط.
لكن كانت رغبة الناس في الحرية معدية ولم يعد ممكنا قمعها بعد ذلك. في يونية, فتحت الحدود فعليا بين المجر والنمسا, وهذا يعني أنه أصبح بإمكان الألمان الشرقيين, الذين كانوا يستطيعون بسهولة السفر إلي دولة المجر الشيوعية والصديقة, من الوصول إلي ألمانيا الغربية عبر النمسا بدون الحاجة إلي القفز فوق جدار برلين. لجأ ألمان شرقيون آخرون إلي سفارات ألمانيا الغربية في براج وبودابست مصممين علي البقاء في أرض السفارة إلي أن يتم تأمين وسائل دخولهم إلي ألمانيا الغربية. كان الألمان الشرقيون, يعرضون أنفسهم للخطر الواضح, ويسيرون في المظاهرات, إما في الخارج أو حتي بدرجة أكثر أثرا في شوارع وطنهم. في 9 نوفمبر, أشار فتح جدار برلين إلي أول انتصار سلمي وناجح في النهاية للثورة الألمانية, انتصارا ربما لم يحتفل به بما يكفي من جانب الأشقاء في ألمانيا الغربية.
بحلول نهاية عام 1989, كان قد تم تحرير الدول التابعة للاتحاد السوفيتي. وحصل بالفعل ما كان مجرد عدد قليل من الناس يعتقدون أنه ممكن الحصول, وهو إمكانية قلب نظام حكم السوفيت بصورة سلمية. سوف ينهمك المؤرخون طويلا في مناظرات حول كافة الأمور التي ساهمت في هذا التحرير وكيف حدث, ولكن كان من الواضح أن سلسلة من العمليات المتسلسلة غير المتوقعة هي التي أحدثت التحرير: أجد مغريا التفكير بأنها كانت مؤامرة صامتة من الطيبة البشرية. كانت أحداث برلين رمزا وواقعا حقيقيا لانتصار المثل العليا الغربية, وبالتالي كذلك لانتصار المثل العليا الأمريكية أيضا.
لقد ألمحت فقط إلي وجود اتصالات سرية مازال يتوجب استكشافها. بعد مرور مئتي عام علي الثورة الفرنسية العظيمة حاولت ثورة جديدة, مختلفة كليا, تكوين أوربا جديدة, ولمرة واحدة, بفضل الدهاء السخي للتاريخ, ظهر القادة المناسبون والمواطنون الشجعان الفطناء في وقت متزامن. ربما لم يكن هناك أبدا, قبل ذلك أو بعده, أن تشبع الهواء بمثل هذا الأمل الكبير, وربما كان هذا الأمر جيدا لدرجة أنه لم يكن له أن يدوم. ولأسباب عديدة, كالعودة إلي القومية العنيفة, تحول الواقع بسرعة كبيرة في بعض الأماكن إلي شيء بشع ودموي مجددا. لكن تحققت سابقة ناجحة أكدت ##قوة الذين لا قوة لهم##. إنني أشك في أن شرارات تلك الأيام قد انطفأت إلي الأبد: هل يري المرء أنه في ظروف مختلفة جذريا, ولأسباب مختلفة جذريا, أن ملايين الإيرانيين في شوارع طهران, الذين يطالبون بحياة مختلفة أفضل, يتبعون تلك السابقة؟
يو إس جورنال