قبل 10 سنوات تقريبا, دخل علم الأحياء حقبة جديدة. فقد زعزع عالم ناشئ يدعي جيه كريج فنتر أسس علم الوراثة من خلال إطلاقه شركة خاصة به تعني بفك رموز المجين البشري وتمولها استثمارات تجارية, ومن خلال سعيه أيضا لتحقيق أهم إنجاز في علم الأحياء ــ رسم خارطة المجين البشري ــ بمفرده. كان فنتر في مواجهة النظام القديم ــ قديما بسبب مصدر تمويله (الحكومات وصناديق الهبات) وتقنية فك رموز المجين التي كان يريد التمسك بها. وقد فاز فنتر في ذلك السباق, لكن ليس لأنه وصل إلي الهدف أولا. من خلال جمعه بين حرية البحث الأكاديمي والأموال التجارية, توصل إلي طريقة علمية جديدة فعالة لدرجة أنها أجبرت المؤسسات القديمة إما علي بذل مجهود أكبر أو لعب دور ثانوي.
بفضل زخم فنتر, تمكن علم الأحياء من فتح آفاق جديدة, لكنه لم يعد الوحيد الذي يدفع بهذا المضمار قدما. وفي الواقع, بمساعدة مئات العاملين في معهد جيه كريج فنتر, بدأ يشبه بشكل خطير النظام القديم الذي تفوق عليه قبل نحو عقد. أحد الأشخاص غير التقليديين الآخرين في هذا المضمار, عالم الأحياء جورج تشيرش من جامعة هارفارد, هو عملاق في العالم الأكاديمي يواجه التحديات الكبري في علم الأحياء المعني بالمجين من منظور إبداعي مختلف عن منظور فنتر. كلاهما يستندان إلي طريقة تحديد سلسلة الحمض النووي (الـ دي إن إيه), محاولين الحد من كلفة فك شفرة المجينات الفردية ــ والمبادرة الأكثر جذرية هي استغلالهما لسيطرتهما الرقمية علي الخلايا والحمض النووي لتصميم كائنات جديدة. معا, يقوم فنتر وتشيرش بتوجيه والتأثير علي جزء كبير من العمل في قطاع فك رموز المجين البشري وعلم الأحياء التركيبي, بما في ذلك ثلاث مبادرات تجارية لتطوير بكتيريا يمكن أن تنتج الجيل التالي من الوقود الحيوي.
ثمة أسباب تدعو للاعتقاد بأن تشيرش قد يحل مكان فنتر ويصبح الفتي العبقري التالي في علم الأحياء. فقطاع دراسة المجين لايزال في بداية نموه, وتبين أن رسم خارطة المجين كان المرحلة الأولي ليس إلا. وبدلا من توفير أجوبة, فإن المجين الذي رسمت خارطته دفع العلماء إلي طرح مجموعة من الأسئلة: ما تأثيرات مجموعات من الرموز الجينية علي كائن حي خلال حياته؟ إن كنا قادرين علي قراءة الرموز, هل يمكننا كتابتها أيضا؟ إخراج العلم من فوضي دراسة المجين يتطلب خيالا أكبر من مهمة مشروع المجين البشري, الذي كان إطاره محددا بوضوح وكان قائما علي قراءة الرموز ليس إلا. الابتكار الجذري ــ أي الأفكار غير التقليدية التي تجعل من المفكر شخصا لامعا أو غير واقعي بالكامل ــ هو موطن قوة تشيرش, علي عكس فنتر الذي يفضل الجمع بين الأفكار والوسائل الموجودة أصلا. نص علم الأحياء الجديد هذا لايزال غير مكتوب بمعظمه, وكون فنتر أول من قلب صفحته الأولي لا يعني أن رؤياه هي التي ستتفوق في النهاية. يقول تشيرش: في بعض الأحيان, من الأفضل أن يحل المرء في المرتبة الثانية.
قد يكون البحث عن أفكار غير اعتيادية أحد أسباب انضمام فنتر إلي الهيئة التعليمية في جامعة هارفارد هذا الربيع, وهو منصبه الأكاديمي الأول منذ عام .1982 (رفض فنتر أن نجري مقابلة معه عند إعدادنا هذا المقال). هو وتشيرش عضوان حتي في مبادرة الأبحاث نفسها التي تدعي أصول الحياة, حيث يدرسان الحياة بأبسط أشكالها الوراثية والجزيئية. مشاركة فنتر هي دليل علي تنوع التطبيقات العملية للأفكار المبتكرة في الجامعات. أكثر من أي وقت مضي, يقلص فنتر وتشيرش الهوة بين العالمين الأكاديمي والتجاري في المجالات الجديدة من قطاع علم الأحياء. يقول ستيفن شابين, وهو مؤرخ علمي في جامعة هارفارد, إنه يجدر بنا في هذه المرحلة التوقف عن التصنيف والنظر فقط إلي ما يفعله هؤلاء الناس. فضلا عن العلم المبتكر الذي يقوم فنتر وتشيرش بتطبيقه, يجريان أيضا اختبارا اجتماعيا: إنهما يخلقان أدوارا اجتماعية خاصة بهما, ويحددان شخصيتيهما, كما يقول شابين. وفي الوقت نفسه, يصر تشيرش علي أنه وفنتر ليسا متنافسين إنما جزء من البيئة نفسها يقومان بأدوار مختلفة. لكن شابين يشير إلي أن الأسد وحيوان النو موجودان في البيئة الحيوية نفسها. والسؤال المطروح هنا: من هو الأسد؟
إن وصفت جورج تشيرش بأنه شخص مغمور أمام أي من نظرائه الجامعيين, قد يضحكون عليك: كونه يستعين بأكثر من 12 طالب دراسات عليا و18 باحثا حائزا شهادة دكتوراه, فهو يدير أكبر المختبرات في أغني جامعة في العالم. لكن مقارنة بمعهد فنتر, لايزال يشعر أنه يدير مجهودا صغيرا علي هامش القطاع. غير أن هذا لا يزعجه. يقول: في بعض الأحيان ــ وليس دائما ــ يكون الفريق الأصغر أكثر مرونة. لقد ابتكرت مجموعة تشيرش نماذج أولية لبعض آلات تحديد سلسلة الحمض النووي من الجيل الثاني, التي يأمل أن تساهم في تخفيض تكلفة رسم خرائط المجينات بحيث يمكن فحص جيناتك بالسهولة التي تؤخذ فيها صور الأشعة السينية.
في الوقت الراهن, يعمل كل من فنتر وتشيرش علي تصميم كائنات حية بدائية. الإمكانات التي توفرها هذه التكنولوجيا هائلة جدا. ومن خلال تغيير التركيبة الكيميائية للكائنات الحية, والتلاعب بالمجين وحتي تكوين أجزاء من الخلايا, بإمكانهما تصميم أدوات مصنوعة من كائنات حية. كل من تشيرش وفنتر ينظران إلي الخلايا علي أنها آلات. وعندما أعلن تشيرش في مارس عن آخر إنجازاته المتمثل بتكوين الريبوسومات بشكل اصطناعي, وهي مولدات البروتينات بالغة الأهمية داخل الخلية, شبه العملية بسيارة معدلة سريعة, قائلا: الأمر أشبه بنزع غطاء المحرك والعمل علي تعديله بشكل مباشر. وقد شبه فنتر عمله الخاص في مجال إعادة هندسة الخلايا بعمل أجهزة الكمبيوتر قائلا: بإمكاننا تشغيل كروموسوم معين … أو خلية معينة.
فيما يمهد تشيرش وفنتر السبيل لإيجاد طريقة جديدة لفهم علم الأحياء واستخدامه, فإن مقاربتيهما المختلفتين تظهران الفروق الأساسية بينهما. وفي سعي فنتر إلي تصميم كائنات حية, كان إنجازه الكبير يتمثل وفي زرع مجين أحد أنواع البكتيريا في نوع آخر, وهما جنسان مختلفان من نوع المفطورة. فاستولي المجين المزروع علي الخلايا الجديدة وحولها إلي خلايا من جنسه. معتليا المنصة قبل تشيرش خلال ندوة بعنوان أصول الحياة في جامعة هارفارد في شهر مارس, وصف فنتر ذلك بأنه بمثابة خلق برمجية تصنع مكوناتها الخاصة, لكن في الحقيقة, كان كل من البرمجية والمكونات موجودا وحيا, وقد ابتكر طريقة مختلفة تهدف إلي تحقيق نتيجة جديدة بالكامل. من خلال صنع الريبوسومات, تخطي تشيرش نوعا آخر من العوائق.
فالريبوسوم يعتبر الجزء الأصغر في الخلية الحية, ومكونا موجودا في كل أنواع الخلايا, وهو الجزء الذي تتألف منه البكتيريا, وكذلك النباتات والحيوانات. لقد وصف عالم الفيزياء فريمان دايسون الريبوسوم بأنه المفتاح الأساسي للغز بداية الحياة وقبل عامين, خلال تجمع صغير لبعض أكثر علماء العالم إبداعا في مزرعة في ولاية كونيتكت, قال دايسون لتشيرش وفنتر والباحثين الثلاثة الآخرين الموجودين إن اكتشاف الريبوسوم هو اللغز الأساسي فيما يتعلق بكيفية نشوء الكائنات الحية. لقد تمكن تشيرش من تفكيك الريبوسوم وإعادة تكوينه, مما يعني أنه قادر علي صنع ما هو أكثر بدائية حتي, إلي أن يتمكن, بواسطة مجموعة بسيطة من الذرات, من تحفيز نشوء كائن حي من ابتكاره. يقول: لا أستطيع القول بعد إننا حللنا كل الألغاز لكن أصبح معقولا الانتقال من المكونات الكيميائية إلي حمض الـ آر إن أيه والريبوسومات بالغة الصغر, وصولا إلي الريبوسومات الكاملة ومن ثم إلي خلية.
حاليا, بالنسبة إلي كلا العالمين, فإن النظير البكتيري لسيارة سريعة معدلة هو كائن حي قادر علي استهلاك ثاني أكسيد الكربون وصنع وقود للمحركات.
العام الماضي قال فنتر لنيوزويك إن شركة سينثيتيك جينوميكس, وهي النظير التجاري لمعهد أبحاثه غير الربحي, تحتاج إلي سنة أو سنتين قبل البدء بإنتاج أول أنواع وقودها. لكن تشيرش كان قد أسس شركة جديدة تدعي إل إس 9 عام 2005 لتطوير منتج تجاري. الفكرة الكامنة وراء كلتا الشركتين هي استغلال قدرة البكتيريا الطبيعية علي تحويل السكر إلي أحماض دهنية, وهي خطوة تمهيدية لصنع وقود الديزل.
في هذه المرحلة, يرحب تشيرش وفنتر بالعدد الكبير من الشركات الجديدة التي تختبر مقاربات مختلفة, لكن في هذا السباق, الجائزة ملموسة أكثر منها في سباق فك رموز المجين البشري بالنسبة إلي من سيصل إلي الهدف أولا, أو ربما إلي من يصل إليه ثانيا إن كانت مقاربته أفضل. يقول تشيرش: سيحدث تقارب حول المقاربة الناجحة. قبل أن يبدأ أحدهم بجني الكثير من الأموال, لن يحدث أي تقارب. في الوقت الراهن, يشير تشيرش بابتهاج إلي أن فنتر يحاول تعديل النوع الخاطئ من البكتيريا. ففي حين أنه وغيره يستعينون ببكتيريا الإشريكية القولونية, فإن فنتر يستمر في استعمال بكتيريا المفطورة التي تحتوي علي أعداد قليلة جدا من الجينات التي يمكن التلاعب بها لكنها تنمو ببطء أكبر ولها غشاء حساس, مما يعني أنه من المحتمل أن تتفكك عند احتكاكها بالوقود الذي يفترض بها إنتاجه. يقول تشيرش عن فنتر: إنه أشبه بشخصية القبطان أهاب. والمفطورة هي حوته الأبيض. لقد قرر أن الكائنات الحية الصغيرة أفضل وسوف يقوم بتكوينها اصطناعيا. والسبب يعود جزئيا إلي أنه لم يكن مستعدا لتغيير التكنولوجيا بما يكفي كي يتمكن من صنع كائنات أكبر.
تشيرش مخترع بكل ما للكلمة من معني. إنه شخص يمكنه صنع شيء جديد بالكامل ليقوم بوظيفة لم يكن أحد يعتقد أنها مفيدة. عندما كان طالب دراسات عليا, كان محور اهتمامه صنع مسلسل آلي للحمض النووي يمكنه تحليل كميات هائلة من البيانات بأسرع وقت ممكن.
عام 1979, حتي الناس في مختبره الخاص لم يفهموا جدوي صنع شيء كهذا. ويقر تشيرش الآن وعيناه تخفيان ابتسامة: كان ذلك عديم الصلة بالكامل بواقع السوق آنذاك. بعد ذلك بسنوات, صنع ليروي هود, في جامعة كالتيك, النموذج الأولي للآلة التي سميت لاحقا أيه بي آي 3700, وهو المسلسل الآلي من الجيل الأول الذي ألهم فنتر لاقتحام قطاع دراسة المجين. استخف هود بذلك النموذج الأولي باعتباره مشابها لأول سيارة صنعتها شركة فورد, لكن فنتر لم يستطع الانتظار فمضي قدما بالمشروع, ووجد حلولا لكل مواطن الخلل المحتمة, ومن خلال استعماله 300 آلة تنطوي علي شوائب بدلا من 230 آلة خالية من الشوائب, توصل إلي رسم خارطة المجين البشري. لكن تشيرش كان قد تخطي تلك المرحلة.
تكمن عبقرية فنتر في استعمال التقنيات والتكنولوجيا المخترعة للتوصل إلي إنجازات غير متوقعة. فالنماذج الأولية من آلة أيه بي آي 3700 اكتسبت شهرة بسبب ما استطاع تحقيقه من خلالها. لم يكن هو من ابتكر تقنية رسم خارطة المجين المشوبة هذه لكنه أظهر إمكاناتها, أولا من خلال رسم خارطة مجينات كاملة ومن ثم عبر أخذ عينات جينية من تراب المحيطات والأرض من خلال رسم خارطة مجينات كائنات حية.
عندما رأي كيفية عمل آلة إيه بي آي, أدرك أن كل المستلزمات الضرورية لبدء عصر جديد في قطاع دراسة المجين كانت قد أصبحت موجودة: مجموعة من بلازميدات الحمض النووي المتكاملة, وشركة تقوم بتنقية هذه البلازميدات كي يصبح بالإمكان رسم خارطتها ومسلسل آلي وقاعدة بيانات عامة حيث يمكن تخزين الجينات التي فكت رموزها. الروابط التي رآها فنتر بين هذه المجموعات الأربع أفسحت له المجال لتحقيق حلمه.
لكن هناك ثمنا للتطبيقات المتسرعة: مع أن فنتر فك رموز أول مجين بشري ثنائي الصبغيات (وهو مجينه الذي رسم خارطته بالكامل عام 2007) بتكلفة أقل بكثير من الـثلاثة مليارات دولار التي خصصت له في الميزانية الفيدرالية, فقد وصلت التكلفة إلي 70 مليون دولار ــ للمجين الواحد. من جهته, تمكن تشيرش, الذي استخدم آلاته من الجيل الثاني لرسم خارطة المجين بعد ذلك بعامين, من فك رموز 95 بالمائة من مجينه بكلفة خمسة آلاف دولار تقريبا حتي الآن. وقام في الوقت نفسه برسم خرائط مجينات تسعة أشخاص آخرين لإطلاق مشروع المجين الشخصي, وهي قاعدة بيانات عامة لمجينات مقرونة بكل السمات الظاهرية لكل فرد وماضيه الطبي. الهدف هو جمع مجموعة من البيانات الكافية إحصائيا التي تبدأ بإظهار العلاقات المعقدة بين جينات الفرد والسمات والأمراض التي تظهر في حياته. يضم المشروع الآن أكثر من 13.000 متطوع لرسم خارطة مجينهم ويأمل تشيرش أن يجمع 100.000 مجين. لم يكن ممكنا تحقيق أي من ذلك بتكنولوجيا تفكيك رموز الجينات من الجيل الأول, ويقول تشيرش: لم أرغب حقا في القيام بذلك قبل أن تصبح الكلفة معقولة.
عندما سئل تشيرش في اجتماع كونيتكت عن الفروق بين عمليهما, أجاب: كريج أكثر إنتاجية. وأضاف فنتر بلباقة: أنا أستعين بتقنيات جورج. فيما يرسيان أسس علم الأحياء الجديد, اقتربا أكثر فأكثر أحدهما من الآخر, ربما كي يتمكن كل منهما من أن يري في عمل الآخر كيف يتجلي المستقبل. وفي حين أن عملهما يتطرق إلي جوهر الكائنات الحية ــ بطرق قد تجعل البشر يتحكمون بالعملية نفسها التي أدت إلي نشوء الحياة ــ فهما يتحليان بتواضع يكاد يكون مبالغا به. فقد قال تشيرش خلال اللقاء في كونيتكت, نحن لا نلعب دورا إلهيا. وأضاف: نحن بالتأكيد لا نصنع كونا جديدا, بل نصنع أشياء.
فأضاف فنتر: هذا مدي قدرتك.
أجاب تشيرش: قدرتي صغيرة جدا. صغيرة جدا.
نيوزويك