في 26 مارس 2009 مر ثلاثون عاما علي توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 26 مارس1979, وهي المعاهدة التي تعد في تصوري أهم حدث في تاريخ مصر المعاصر.لم يقدم أحد دراسة علمية عن رأي الشارع المصري في المعاهدة عبر استطلاعات واسعة للرأي تعكس النظرة الحقيقية للتيار الرئيسي في الشارع المصري , ولكن يمكن قياس رأي الصحافة والإعلام المصري للمعاهدة منذ توقيعها من خلال الكم الهائل من الكتابات التي دارت حولها. ورأي الإعلام المصري في مجمله سلبيا تجاه المعاهدة ولكنه لا يعكس الرأي الحقيقي للشارع.الإعلام المصري ,مثله مثل الإعلام العربي, تسيطر عليه كتل الإسلاميين والقوميين العروبيين والاشتراكيين, منتقدو المعاهدة ينطلقون من موقف أيديولوجي لا علاقة له لا بالشارع المصري ولا بالتقييم الحقيقي للمعاهدة بناء علي الفوائد والخسائر.
أهم نقد يوجه للمعاهدة هو تحييد مصر عن الصراع العربي الإسرائيلي, فهل هذا عيب أم ميزة؟. إن تحييد مصر عن هذا الصراع هو ميزة لا تقدر بثمن, فما معني أن تحارب مصر للعرب بدون عائد حقيقي علي التنمية والتقدم والرفاهة؟, وما معني أن يربط الكثيرون الدور المصري في المنطقة بمواصلة دفع أثمان بلا مقابل؟,وما معني أن تظل مصر تخسر في حسابات التكلفة والعائد لمجرد الحديث عن الشقيقة الكبري وخلافه؟.
الدور المصري الذي يتحدثون عنه له شقان, شق خشن قاده عبد الناصر وانتهي بهزيمة 1967, وهذا الدور كان كارثة علي مصر المعاصرة وعلي المنطقة, أما الدور الآخر فهو الدور الحضاري الناعم من خلال الإبداع والتعليم والفنون بمختلف أنواعها وكل أدوات القوة الناعمة الأخري, وتراجع هذا الدور ليس له علاقة بمعاهدة السلام وإنما بغياب الحريات الحقيقية, مما أدي إلي مطاردة هذا الدور وخنقه, وكذا هذا التراجع له علاقة بالفشل في تبني أجندة حقيقية للتنمية والتقدم.
يحمل آخرون المعاهدة كل ما أصاب مصر من انتكاسات في العقود الأخيرة, وهذا كلام لا معني له ولا صحة له علي الإطلاق, فهل المعاهدة هي المسئولة عن الفساد الذي ضرب المجتمع المصري؟, وهل المعاهدة هي المسئولة عن غياب الديموقراطية والحريات والحكم الرشيد؟, وهل المعاهدة هي المسئولة عن التعصب والهوس الديني الذي أصاب المجتمع المصري ومؤسسات الحكم؟, وهل المعاهدة هي المسئولة عن غياب حياة حزبية حقيقية في مصر؟, وهل المعاهدة هي المسئولة عن تردي مستوي التعليم من المدارس إلي الجامعات؟, وهل المعاهدة هي المسئولة عن غياب معايير العدالة وضمانات استقلال القضاء؟, وهل المعاهدة هي المسئولة عن تنامي الفكر الوهابي الحنبلي البدوي الصحراوي؟, وهل المعاهدة هي المسئولة عن خنق المجتمع المدني وترويضه وفساده؟.
يجب التفرقة إذن بين فشل الحكم وبين معاهدة السلام.معاهدة السلام كانت ولا زالت من أفضل الخطوات الصحيحة التي حدثت في مصر منذ عام .1952
هناك من ينتقد المعاهدة ويقول إنها تركت معظم سيناء خاوية من الأسلحة الثقيلة, ومن ثم حدث خواء في الأمن القومي المصري من جهته الشرقية. أيهما افضل أن تبقي سيناء محتلة أم تتحرر بشروط لا تشكل قيدا علي التنمية وإنما قيدا علي الحروب؟, لماذا تفترضون أن إسرائيل هي العدو رغم عودة كافة الأراضي المصرية ووقف التحرشات المتبادلة؟. والسؤال الأهم قاله مبارك في حديث لجريدة السياسة الكويتية في 16 فبراير 1981,##ما البديل الذي يطرحه العرب للمعاهدة؟..لا يمكن لنا أن نحقق شيئا بالحرب مع إسرائيل فهذا مستحيل…هل استطاعت أية قوة أن تأخذ من إسرائيل التزاما بالانسحاب قبل كامب ديفيد…؟##.
مازال سؤال مبارك الذي طرحه منذ ما يقرب من ثلاثة عقود موجها للعرب ولمحترفي الشعارات الفارغة,ما البديل للمعاهدة؟, وماذا فعل العرب في العقود الثلاثة الماضية لتحرير أراضيهم؟, وهل خرجت سوريا من وضع الجمود والشعارات؟, وهل تحسن وضع الفلسطينيين أم زاد سوءا وانقساما؟,ألم تحذو الأردن حذو مصر في وادي عربة وانتزعت أراضيها قبل فوات الأوان؟,ألم يذهب العرب إلي مدريد والفلسطينيون إلي أوسلو وهم في وضع أضعف بكثير من كامب ديفيد؟.
أما فوائد المعاهدة فهي كثيرة جدا بالفعل. بفضل المعاهدة عادت سيناء محررة بالكامل حتي آخر شبر في طابا, وعاد بترول سيناء وثرواتها, وانتعشت السياحة المصرية بشكل غير مسبوق, وأصبحت شرم الشيخ أهم منتجع سياحي في مصر بل ومركزا للحكم وللمؤتمرات الدولية الكبري.بتوقف الحروب انتهي الاستنزاف البشري والمالي,فالحروب المتواصلة هي أسوأ شئ ممكن أن تتعرض له أمة أودولة.
حصلت مصر بعد توقيع المعاهدة علي 2.1 مليار دولار سنويا منذ عام 1979 من الولايات المتحدة ليصل حجم ما حصلت عليه مصر من هذه المعونات إلي 63 مليار دولار, وحصلت علي معونات أخري وإسقاط للديون وقروض بتسهيلات واسعة… ليصل حجم ما حصلت عليه مصر بفضل المعاهدة إلي حوالي 200 مليار دولار من أمريكا والغرب والمؤسسات الاقتصادية الدولية.
بفضل المعاهدة استعادت مصر مكانتها علي المستوي الدولي كصانع سلام وشريك مهم في المحادثات من أجل السلام في المنطقة, ولا تخلو زيارة لمبارك إلي الدول الكبري من الحديث عن دور مصر في الاستقرار وصنع السلام, فكيف نقارن توتر علاقات مصر بسوريا والعراق وياسر عرفات وقتها في مقابل تقوية علاقتها بأمريكا وأوروبا والمجتمع الدولي؟, وماذا كان يشكل نظام صدام والأسد وعرفات سوي الشعارات والمزايدات التي لا تنتهي والتي كانت محصلتها كارثية عليهم وعلي شعوبهم؟. لقد كتب السادات في 5 أكتوبر 1981 ,أي قبل رحيله بـ24 ساعة في مجلة أكتوبر ## أوكد هنا للإخوة العرب أنني كنت مثلهم تماما وربما أكثر.. أعتقد أن موقف أمريكا ميؤوس منه, وأنها تقف مع إسرائيل ظالمة ومظلومة, ولكن ثبت أن هذا كله وهم. إنك لو فهمت الشعب الأمريكي وفهمك هذا الشعب تستطيع أن تحل مشاكلك كلها, لأنهم أناس عادلون بشرط أن تكون أنت عادلا مع نفسك, لا تناور ولا تقل كلاما ثم تفعل شيئا مخالفا##.
إنني أعتقد أن الفشل الحقيقي الذي منيت به مصر هو عدم الاستفادة من مناخ الاستقرار المصاحب للسلام, ومن هذا الكم الهائل من التدفقات المالية بوضع خطة حقيقية لتنمية مصر ونهضتها.
عادت معاهدة السلام بالكثير من المزايا علي كل من مصر وإسرائيل, وهذه هي طبيعة المعاهدات التوافقية الناجحة بتقديم بعض التنازلات في مقابل الحصول علي الكثير من المزايا.
معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية كانت خطوة عظيمة لكل من مصر وإسرائيل,أما الفشل في النهضة والتقدم فهذا ذنب الحكم في مصر وليس المعاهدة.. فلا يعقل أن يكون السلام ووقف الحروب سببا للفشل, وأنما سوء الحكم هو السبب ..بدليل التقدم المتواصل لإسرائيل منذ توقيع المعاهدة.
[email protected]